التعريف الفرنسي للاعتدال الإسلامي
يريد الساسة الفرنسيون إسلاما "معتدلا". لا أحد لا يريده. يلحّون عليه منذ سنوات، الرؤساء جاك شيراك، نيكولا ساركوزي، إيمانويل ماكرون، وغيرهم، يطرحون المبادرة تلو الأخرى، ويتبنّون المؤسسة تلو الأخرى، ويدفعون باتجاه "نموذجٍ بعينه"، يسمونه حينا الإسلام المعتدل، وأحيانا أخرى "الإسلام الفرنسي". وفي المقابل، ثمّة خطاب عدائي يوجهونه إلى المسلمين، في عمومهم، وقت السؤال، وإلى الإسلام السياسي وحده، وقت المساءلة، أو المؤاخذة، أو المقاطعة الاقتصادية!
يقاطع المسلمون في فرنسا هذا النموذج الإسلامي الحكومي، ويراهم ماكرون وغيره انعزاليين، لأنهم لا يشترون بضائع الدولة ومنتجاتها الدينية، والحال أن مسلمي فرنسا يَرَوْن واقع الخطاب لا ظاهره، نحن نسمعه وهم يعيشونه. ولا يحتاج المراقب إلى جهدٍ كثير، كي يتبين حقيقة الاعتدال الفرنسي، ليس كما يعلن عنه الساسة الفرنسيون، في خطاباتهم الرسمية، بل كما يريدونه، ويتبنّونه، ويطرحونه، ويحتفون به.
خذ مثلا واحدا: الشيخ حسن الشلغومي، واعظ مسلم، كما هو مفترض، فرنسي، من أصل تونسي. تتبناه الدولة الفرنسية، وتفتح له أبوابها كافة. يظهر باستمرار في صور لطيفة مع ساركوزي وماكرون، ويفاخر بصداقتهما. رئيس منتدى أئمة مسلمي فرنسا لمكافحة التطرّف، وهو منتدى تموّله الإمارات. لا بأس، ذلك كله عادي. الأهم والأخطر هو أفكار الشيخ، موطن الشاهد، وبيت القصيد، مفهوم الشيخ عن التطرّف، ومفهومه عن الاعتدال. يرى الشلغومي أن "الإسلام السياسي هو سرطان الأمة". ويصرح بذلك في كل مناسبة. لا بأس، هذا حقه، اتفقت معه أو اختلفت، فهو يتحدّث عن جانب سياسي حركي في التفكير الإسلامي، فرع لا أصل، رأي لا شرع، وهو رأي سبقه إليه آخرون، وهو محلّ جدلٍ وأخذٍ وردٍّ وعراكٍ وتطاحن أكثر من مائة عام بين فريقين، وقراءتين، وتأويلين.
إلى هنا، نحن أمام وجهة نظر لها وجاهتها، إلا أن موقف الشيخ من تسييس الإسلام يفقد وجهته ووجاهته وموقعه، وكل علاقة له بالرؤية والنظر، حين تعرف أنه ليس لدى الشيخ أي مانع من تسييس أي دين آخر، فالتسييس جريمة، فقط، حين يتعلق بالإسلام. يزور الشلغومي الكيان الصهيوني، ويدعم دولته الدينية، ويلتقط الصور مع جنود الاحتلال، ويعانق أفيخاي أدرعي في حرارة، يدعو الله لجيش الاحتلال بالتوفيق. ويصف المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي بأنه سيده وأخوه. ويصف الصهاينة بأنهم منفتحون، مسالمون، لا يكرهون الإسلام، ولا يكرهون المسلمين، أقوياء ضد الشر. أما الشر فهو، وفق "الشيخ المعتدل"، حركة حماس والمقاومة الفلسطينية التي وصفها الشلغومي، هي وكل من يقاوم إسرائيل، بالإرهاب!
الإسلام المعتدل، إذن، هو دين ضد الدين، دين منزوع الدين، دين ضد أصحابه، وضد قضاياهم، وضد حقوقهم، ومع استسلامهم للمحتل، ومع إخراجهم من ديارهم، ومع تهجيرهم وتشريدهم، يصف المعتدي عليهم بالقوة في مواجهة الشر، ويصف المقاوم المتمسّك بحقه بالإرهاب. هكذا يتم تعريف الاعتدال، وتقديمه، فهل يوجد طريقة أنجح من هذه للانتصار لكل ما هو غير معتدل؟
يزداد احتقار المسلمين في فرنسا هذا النموذج، حين يجدونه متصدّرا وممثلا عنهم، عنوة، من دون اختيار منهم، ومن دون أي شعبية أو تأثير، ومن دون أي إسهام علمي حقيقي، ومن دون أي مؤهلاتٍ تجعله أكثر أوروبيةً أو فرنسةً من غيره، فالشيخ الذي تعتبره الدولة الفرنسية ممثلا عن إسلامها لا يجيد الفرنسية، بالقدر الذي يمكنه من توصيل رسالة الإسلام أو أي رسالة أخرى. مقاطعه الفرنسية على "يوتيوب" مادة خام للكوميديا السوداء، وكذلك تصريحاته ومستوى معرفته بما يحدث حوله. وصل الأمر إلى أن الشلغومي كان يظن أن "شارلي إيبدو" هو اسم لشخص مسكين تعرّض لاعتداء إرهابي، على يد متطرّفين مسلمين. وحين سألته الصحافة الفرنسية التي هرعت إليه بعد الحادث، تستطلع رأيه، باعتباره ممثل الإسلام المعتدل، تَصَنَّع التأثر أمام الكاميرات، وقال: "رأيت عائلة شارلي وأنا حزين من أجلهم"، وحين سألوه: شارلي من؟ أحسّ بالورطة، واستأذن في الانصراف، هذا النموذج الكاريكاتوري، هو باختصار: التعريف الفرنسي للاعتدال الإسلامي.