التفكير داخل الصندوق
لا أدري أن الأمر قد حدث من قبيل المصادفة أم أن رسالة مسلسل "الصندوق" الذي وقعتُ عليه وتابعته قد جاءت في توقيت مناسب، وأقصد بالتوقيت انتهاء جولة جديدة من التصعيد على غزّة وخروجي من هذه الجولة مع عائلتي سالمين، وقد كنّا قاب قوسين أو أدنى من الموت، وخرجنا أيضا ونحن نتساءل: هل كان الموت أرحم لنا مما نحن فيه وعليه الآن؟
هكذا أوقعتني المصادفة على مسلسل بعنوان "الصندوق" وهو من 16 حلقة بلا مطّ، وليس على غرار المسلسلات الكورية الممطوطة بلا جدوى حتى الثلاثين حلقة، ولكنك تجد نفسَك أمام عمل درامي يوجّه رسالة سوف تقف طويلا لكي تكتشف كيف يدسّ السم في العسل، حيث إنك سوف تمتلك نظرتين للرسالة الأولى، القريبة والبعيدة، لأن المسلسل تناول قضية تعرف في الغرب ب "القتل الرحيم"، ولكنه يريد أن يوصل إليك الرسالة القريبة، ويحاول إقناعك بها، عبر إدخالك إلى أعماق أربع قصص مأساوية لأشخاصٍ عانوا من أمراض مستعصية وظروف إنسانية وأسرية خاصة ومحزنة، تجعلك تتمنّى الموت لهم لا الحياة، وحيث إن الأمل بالحياة يكاد يكون معدوما.
تبدأ الحكاية بصندوقٍ مقفل يصل إلى ثلاثة أصدقاء في ليلة الاحتفال بعيد ميلاد صديقة رابعة، وليبدأ البحث من خلال محتويات الصندوق الغامضة عن قاتل يقتل ضحاياه وجميعهم مرضى بأمراض مختلفة، من أهمها السرطان في مراحل متقدّمة. والقاتل الذي يُنهي حياة هؤلاء المرضى لكي لا يتركهم للألم والعذاب هو نفسُه من يرسل الصناديق التي تُطلع الأصدقاء الثلاثة على أدقّ تفاصيل حيوات المرضى الأربعة وعذاباتهم، والخذلان من الجميع. وربما كان هذا الجميع الأسرة أو المجتمع، ولكنهم، في النهاية، يتمنّون الموت، قبل أن يروا نظرات الشفقة أو نظرات التخلي ممن حولهم وممن توهموا أنهم سيبقون معهم حتى النهاية. وهنا يوصلك الصندوق إلى نتيجة أنك لولا إيمانك بأنه لا يجوز لأي إنسان أن ينهي حياة آخر بلا أدنى حقّ وتحت أي ذريعة، لكنت قد وافقت القاتل في توجّهه، فدقّة التفاصيل التي تكتشفها في حياة المرضى الأربعة، ودموعك التي تنساب على وجهك مع أحدهم خصوصا، ويدعى خضر، وحيث يعمل عتّالا في مصنع للبلاط ويُصاب بسرطان الرئة، بسبب أجواء العمل السيئة، وحين يقع مريضا وتعجز زوجته عن توفير ثمن الدواء الذي يؤجّل موعد موته قليلا، وتضطر لتوجيه طفلهما إلى العمل وترك المدرسة، يهرب خضر من البيت ويختفي تماما من حياة زوجته وابنه، لكي لا يقسو عليهما أكثر، ولكي لا يرى عذابهما وقلة حيلتهما، وهو موقنٌ تماما أنهما سوف يعيشان أفضل بدونه، بعد أن تحوّل من معيل إلى عالة، حتى يلتقي به الطبيب الذي يتفهم مأساته، ويقرّر أن ينهي حياته بجرعة أنسولين مضاعفة، بعد اتفاق مسبق معه.
على هذا الغرار، تدور باقي القصص التي تناولها المسلسل، والذي سحبك لكي تتعاطف مع القاتل بالفعل، وأنت تراه يبكي وهو يغرز الإبرة في ذراع المريض الفاقد كل أمل في الحياة، والراغب في الموت في هذه اللحظة قبل التي تليها، ولكنك تسترجع نفسَك وتتهمه بالجنون وبأي اتهام آخر، وتعود لكي تراجع كل معتقداتك الدينية عن المرض والابتلاء والصبر وتحريم قتل النفس.
وربما الرسالة العامة أو النظرة البعيدة لرسائل الصندوق المؤلمة التي تستطيع أن تصل إليها أن الأصدقاء الثلاثة الذين يمضون الحلقات في البحث عن قاتل، ويصلون إليه في النهاية، هم أنفسهم قد اكتشفوا أن ما يعيشونه من مآسٍ وأوضاعٍ إنسانية وأسرية مثل أن أحدهم ضحية طلاق الوالدين والآخر ضحية تسلط الأب لا يساوي شيئا أمام عذابات المرضى الذين غاصوا في أعماق مآسيهم، ويجعلهم يدركون كما أدركنا، نحن المشاهدين، أننا في نعمة عظيمة لا ندرك قيمتها، هي نعمة الصحة أولا وأخيرا.