التقليد يغزو مجتمع الشبكات
امتلأ مجتمع الشبكات بظواهر كثيرة يصعب حصرُها، كما تصعُب معرفة مختلف النتائج المترتّبة عنها. وقد أصبح الأمر يتطلب اليوم إعداد مدوَّنات قانونية وأخلاقية جديدة، قادرة على مواجهة التحدّيات التي أصبحت تُنتجها وتُعَمِّمُها وسائل التواصل الاجتماعي، بتقنيّاتها الجديدة في عالم يتميّز بالسيولة ويحكمه فاعلون جُدد. وتكشف المعطيات المُتداولَة بقوة وكثافة في الفضاءات الافتراضية نوعية التحوّلات الجارية في عالمنا، فلم يعُد من السهل معاينة مختلف ما يجري اليوم في عالم الشبكات .. تقلّص حجم الواقع، واتسعت مساحة الشبكات المرتبطة به، وبالآفاق التي يعمل على بنائها وترتيب معالمها بموازاة الواقع، وبكثير من الدقّة والنظام..
أصبح عالم الشبكات يُشَكِّل اليوم واقعاً في قلب الواقع، تملأه جملةٌ من المعطيات المكثّفة والمعمّمة، بفعل مستويات الصبيب التي تضخّها في تلافيفه الحوامل التقنية العديدة، المُشَكِّلَة للروافع التي تمنحه التنوّع والتطور، وتتيح له إمكانية التفاعل مع كل ما يجري في الأرض وفي السماء. لقد أصبحنا، في النهاية، أمام واقع مركّب من عالمين، العالم الذي نحيا وسط جريانه المعتاد وعالم الفضاءات الرقمية، وقد شملت مساحته ومستويات تدفق فُيُوضَاته، أمكنةً لا حدود ولا نهاية لها..
لم يعد الزمن الذي ننتمي إليه يخضع في جريانه لمعطيات الواقع المرئي والملموس وحدهما، بل أصبح يرتبط أيضاً بالمعطيات التي أصبح يستوعبها فضاء الشبكات، بحكم الانفجار الذي أحدثته الشبكات المتقاطعة في الفضاءات الزرقاء، المحاذية لعالمنا. أصبحت الشبكات اليوم تملأ واقعنا، ولم يعد هناك إمكانية للتخلّص منها ومن الآثار التي تحمل..
نتحدّث في الواقع منذ عقود عن النخب وأدوارها، ونتحدّث في الفضاءات الافتراضية عن الفاعلين الجُدد، أي عن الفئات المؤثرة والمُوَجِّهَة، بل والصانعة أحياناً الوقائع والأحداث، وقد تعدّدت أسماؤها، نُلقِّبها بالمليشيات، ونسمّيها أحياناً الذباب الإلكتروني، وهي فئاتٌ تنجبها الشبكات وتخضع لتوجيهات المحرّكات الكبرى التي تقف وراءها، وتُسَخِّرُ تقنياتها وأدواتها لخدمة برامج وأهداف محدّدة.
نحن اليوم في حاجة إلى تنوير جديد، قادر على مواجهة تحدّيات الفكر المحافظ، الذي أصبح يملأ الشبكات
يُشَكِّل الواقع الافتراضي اليوم أحد أوجُه الواقع الجديد والمجتمع الجديد. ورغم التباعد المفترض بين شبكات العالم الافتراضي ومؤسّسات العالم الواقعي، أصبح بإمكاننا أن نتحدّث عن عوالم متقاطعة، تضمّ الواقع في تَعَدُّدِه، كما تضمّ شبكات الفضاءات الافتراضية، وقد ارتبطت بتحوّلات الواقع في جريانه. ويمكن أن نربط العالمين معاً بمستلزمات زمن العولمة الكاسحة، ومآثر تقنية المعلومات، وهي تُشَكِّل اليوم قاعدة الإنتاج والإبداع والاتصال، قاعدة التواصل والمعرفة في عالمنا.
لم يعد بإمكان أحدٍ اليوم أن يتخلّى عن أدوار الوسائط المعلوماتية في المجتمع، خصوصا أنها تلامس مختلف جوانب الحياة، وتشكّل أحد المداخل الضرورية، لمواجهة مختلف التحدّيات التي تعترض نمط حياتنا.. ومن الأمور اللافِتة للنظر ما لوحظ أخيرا من هيمنة طاغية لثقافة التقليد وقيمها في مجتمع الشبكات، فقد أصبحت هذه الثقافة تُمارس حضوراً قوياً في فضاء الشبكات، وهي تَبُثّ قيمها بتوسّط تقنيات التواصل، مُستخدمةً آلياته وأدواته، من أجل توسيع صور حضورها وتأثيرها داخل المجتمعات العربية. توظف منتوجات الحداثة والتحديث والعلم والتقنية لترسيخ القيم العتيقة، من دون وعي بالمفارقات والتناقضات التي تترتّب عن مواقفها وأفعالها..
لا يتردّد الفكر التقليدي المحافظ والمعادي للحداثة والتحديث في الاستفادة البراغماتية من المعارف والتقنيات الجديدة، لإنجاز ما يتيح له مزيدا من التمكّن والقوة داخل مجتمعاتنا. وتتمثل خطورة ما يحصل اليوم في عالمنا بفعل مفعول عالم الشبكات، في موضوع الأدوار التي تقوم بها شبكات التقليد، وقد اتّجهت إلى اكتساح عوالمنا الافتراضية، محاولة استغلال ما توفّره تقنيات المعلومات والتواصل، لتنجز بسرعة فائقة هيمنةً غير مسبوقة على مجتمعاتنا وعلى متخيّلنا.
تتّجه مؤسّسات الفكر التقليدي بفضل التقنيات التي توفرها الشبكات، إلى إبداع آلياتٍ تسمح لها بنشر (وتعميم) مواقف وتصوُّرات، لا علاقة لها بالمشترك التاريخي الإنساني، الذي ساهمت الحداثة في بنائه وتطويره، ثم توظيفه خدمة للتاريخ وللمستقبل. فقد أصبحنا اليوم أمام شبكات تخترق الأمكنة والأزمنة، وتستقطب التابعين من كل القارّات، حيث تتم عمليات نشر (وتعميم) تصوُّرات غريبة، في موضوعات لها حساسية خاصة، من قَبِيل ما يتم تداوله عن التراث الإسلامي، وعن الإسلام والحرب، الأنا والآخر، الهوية والغيرية والتعدّد، الدنيا والآخرة، وما بينهما ... وأغلبها تصوّرات محافظة، ولا علاقة لها لا بالتاريخ ولا بالمستقبل.
معركتنا اليوم مع الفكر المحافظ تتم في أجواء أكثر اتساعاً، وتعتمد تقنياتٍ جديدةً تتسم بالسرعة والشمول
تدعونا كثير من أوجُه الثقافة التراثية المتداولة اليوم في الوسائط الاجتماعية إلى القيام بالتشبيك الحداثي اللازم، لمغالبة ما تشيعه الشبكة المذكورة من تصوُّرات. معركتنا اليوم مع الفكر المحافظ تتم في أجواء أكثر اتساعاً، وتعتمد تقنياتٍ جديدةً تتسم بالسرعة والشمول .. وقد تجاوز التقليد في مجتمعنا صكوك الكنيسة ودعاويها، ليصبح نظاماً في العيش ومنطقاً في الحياة، وقد أصبح تفكيكُه أكثر صعوبة، كما أصبحت توابعه وتداعياته أكثر خطورة.. فنحن اليوم في حاجة إلى تنوير جديد، قادر على مواجهة تحدّيات الفكر المحافظ، الذي أصبح يملأ الشبكات، فقد اتسعت دوائر المعارك، لتشمل الفضاءات الرقمية.
تزايد مظاهر التطرّف، واتساع مجالات حضورها في مجتمعاتنا ظاهرة مركبة، وقد تشابكت جملة من العوامل في توليدها وتطوير أدائها في واقعنا، ولهذا السبب، نتصور أن معارك مواجهتها ينبغي أن تكون متنوعة، بتنوع الأدوار التي اصبحت تمارس في واقعنا. وكلما ازداد عنف هذه المظاهر في محيطنا الاجتماعي والسياسي، ازدادت الحاجة إلى تطوير آليات المواجهة ووسائلها، بهدف توسيع مساحات التنوير، والانفتاح في ثقافتنا ومجتمعنا، الأمر الذي يقلص من أدوار الفكر النصّي، وأدوار فقهاء الظلام وقد تكاثر عددهم، ومنحت تقنيات التواصل الجديدة أصواتهم حضوراً لا حدود له..
يمنح فقهاء الظلام أنفسهم امتيازات الكهنوت، امتيازات مانحي صكوك الغفران، وذلك بإصدارهم فتاوى التكفير والجهاد ومخاصمة العالم. وفي ضوء ذلك، نتصوَّر أن معركة أنوار النصف الأول من هذا القرن تختلف عن معارك فرح أنطون ولطفي السيد وسلامة موسى، إنها اليوم معارك جديدة، بأدواتٍ ولغاتٍ جديدة .. ونتصوّر أن أعمال كل من عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وناصيف نصّار وهشام جعيط، وقد بنت، منذ نهاية القرن الماضي، أدوات ومفاهيم جديدة في كيفيات مواجهة ونقد أنماط التقليد السائدة في ثقافتنا، إلاّ أنها لم تنل نصيبها المطلوب داخل شبكات الفضاءات الافتراضية.