التنوير .. نسخة ظلامية

23 اغسطس 2022

(جاكسون بولوك)

+ الخط -

"ما التنوير إلّا مقاومة الاستبداد"... الاستبداد بالعقل وتوقيفه ومنعه من الاشتغال ودفعه إلى الاعتماد على غيره. جاء التنوير في التجربة الأوروبية، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ليتجاوز سلطة الكنيسة إلى العلم، وتمثّل في تيارين، أحدهما متصالحٌ مع المسيحية من دون المؤسسة الدينية ونمط تدينها، والآخر يرى المشكل في الإيمان الديني نفسه. وكان الهدف المشترك، رغم الاختلاف، إنقاذ العقل الغربي من سلطة الاستبداد وإعادة تشغيله، ما أنتج علوماً وفنوناً وآداباً، ثم حضارة غيّرت وجه الدنيا. ورغم الاختلاف في تعريف التنوير، شأن أغلب المفاهيم النظرية، فإنّ المحدّد الرئيس، والمشترك، بين تجارب التنوير المختلفة، هو استهداف تحرير العقل الإنساني من أسر الاستبداد بطرق علمية، لا خرافية، وإنسانية، لا وحشية أو استبدادية أو حتى صادمة، باعثة على الغضب أو الاشمئزاز، وهو ما يجعل من مهمة التنويري نضالاً حقيقياً في مواجهة سلطة الحاكم، والمؤسّسة الدينية، والمجتمع ومقاومته التغيير وخوفه من الحرية، وما يترتّب عليها من أثمان ومسؤوليات، وجنوحه إلى الحقائق المستقرة والرائجة.
بدأ التنوير في السياق العربي نهايات القرن الثامن عشر، وربما لم يخطُر ببال شيخ الأزهر، حسن العطار، أنّ بعض مؤرّخي الأفكار سوف يضعونه في طليعة التنويريين العرب، أو يعدّونه رائداً ومؤسّساً. أدرك العطار مع دخول الحملة الفرنسية إلى مصر، وبعد محاوراتٍ ومجادلاتٍ مع علمائها، ومعايناتٍ لمنجزاتهم المادية، حاجة بلادنا إلى "تغيير" الأحوال و"تجديد" المعارف، ودعا إلى ذلك وشجعه، وواجه من يقاومونه، زوراً، باسم الدين، وتعهّد جيلاً جديداً من الأزهريين كان منهم تلميذه رفاعة الطهطاوي الذي رافق بعثة علمية إلى باريس، وكتب، بتكليفٍ من شيخه، تقريراً، تحوّل إلى كتاب شهير هو "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".
استمر سؤال الحرية (من أجل التقدّم) شاغلاً معرفياً لدى أجيال من التنويريين العرب، اتفقوا في الطريق (تحرير العقل العربي من الاستبداد) واختلفوا في الطريقة (الإصلاح الديني - المصالحة بين التحديث والدين - تجاوز الدين)، وتداخلت مع الهدف الرئيس أهداف أخرى، وشواغل أخرى، ساهمت في ما بعد في الفرز الأيديولوجي (وأحياناً الصراع) بين تيارات التنوير المختلفة، أهمها: سؤال الهوية، وسؤال الموقف من الآخر (الغرب تحديداً)، ثم سؤال الاستبداد السياسي، (مرحلة ما بعد الاستعمار وحكم أنظمة الاستبداد المحلية) وهل هو جبهةٌ مفتوحةٌ إلى جوار نظيرتها الدينية أم مؤجّلة، بالنظر إلى ضعف الإمكانات وعدم القدرة على فتح جبهتين في آنٍ واحد، لكن من دون التقليل من خطر الاستبداد السياسي (وأيّ استبدادٍ آخر) أو التماهي معه أو تبريره. 
كانت مقاومة الاستبداد، إذاً، هي المحدّد الرئيس بين أن يكون المثّقف تنويرياً حقيقياً أو لا يكون، سواء كان الاستبداد دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً (سلطة الجمهور). وعلى الرغم من تورّط بعض التنويريين العرب في لعبة السياسة وحاجة بعضهم، أحياناً، إلى تحييد السياسي، أو التفاهم معه، في ملفّات مشتركة، حفاظاً، مشروعا، على حيواتهم وأرزاقهم، أو اقتناعا، حقيقيا، بفاعلية التعاون في العام والمشترك، من دون النظر إلى نرجسية تسجيل الموقف، إلّا أنّ خيطاً رفيعاً بين التفاهم والذوبان ظلّ يحفظ على المثقف "الحقيقي" دوره ورسالته وصدقيته عند قرّائه. وهنا أشير، على سبيل المثال، إلى تباين موقف قطاع كبير من القرّاء، أصحاب الهم المعرفي، من مثقفين بارزين، من جيل واحد وتوجه أيديولوجي واحد، هما جابر عصفور، حليف السلطة في هدوء وتعقل، ونصر حامد أبو زيد، الذي ظلّ حتى آخر حياته خصما للاستبدادين السياسي والديني ومقاوماً بالمعرفة والإنتاج الجادّ. التوجّس من الأول (رغم إنتاجه الذي يستحقّ الالتفات) واحترام الآخر (وإن اختلف بعضهم مع بعض أفكاره). إلى هنا، نتحدّث عن مذهب فلسفي أنتج أفكاراً وتيارات ومثقفين، ومنجز معرفي، رغم تباين المواقف والتقييمات. أما ما نشهده، هنا والآن، من خطابات فضائيات الأنظمة الاستبدادية وكتائبها الإلكترونية، فهو نسخة ظلامية، تسمّي نفسها تنويرية، وتمارس الدور نفسه الذي تمارسه خطاباتٌ لا أخلاقية تسمّي نفسها دينية... حراسة التخلف.