ميزان الشّعوب الحزينة
بعد أن أتممتُ قراءة كتاب "الكتاب الأبيض" للفائزة بجائزة نوبل للآداب هذه السنة، الكورية هان كانغ، عدتُ إلى إتمام قراءة روايتها الأشهر "النّباتية"، بعد أن توقفتُ لقلّة التّحفيز فيها. "الكتاب الأبيض" نثري جميل، حضّرني للجزء النثري في "النباتية"، حين تحَرَّرَت المؤلفة من ضغطِ الأحداث، وعادت إلى لعبة التّداعي النفسي. لكن الحُزن الذي فيه، ذلك الحزن الذي لن تجده إلّا في هذه المنطقة من العالم، كالأدب الياباني، والذي ليس هشاشةً بالمعنى الشائع، بل هو شعور مزمن بالعدمية، من باب التّيه الوجودي، والاستغناء التام عن الحاجة إلى الحياة.
أكبرُ دافعٍ للحياة هناك، حسب الرِّواية، هو المسؤولية تجاه العائلة، أما بقيّة الناس فلا خيط يربط الإنسان بهم. هل هي مسألة جغرافية أو عدوى اجتماعية؟ كل هذا المزاج الانتحاري وهذه الحياة التي ليست حياة، وهذا التّلاشي في المَلل منذ الولادة، ولن أقول اليأس، لأن اليأس يأتي بعد الأمل... لا عجب أن تكون حالات الانتحار كثيرة هناك بعد أن ننهي قراءة الكتاب.
ورغم أننا نجد ألف عيب في المنطقة العربية، على العالم أن يشكرنا لأنّنا ما زلنا نضحك رغم مصائبنا. الوحيدون الذين يتفوّقون علينا أفارقة جنوب الصحراء، هؤلاء تسبقهم الابتسامات والبهجة في عز المصائب والحروب الأهلية، والغربة في بلاد الآخرين بأجور لا تليق بالبشر، ولكنهم يبتسمون وتتغلّب أصوات ضحكاتهم على شكاويهم، رغم أنها تهدّ الجبال.
لعلّها مسألة الحجم الجسدي التي تعطي الأفريقي هذه القدرة على الشراسة تجاه مصائب الحياة والحفاظ على الإحساس بالانتماء... ما من دراسة في الموضوع، لكن تجربة شخصية أشعرتني بالرابط. فحين فقدت الكثير من وزني، إحدى المرّات، شعرتُ أنني قد أطير في أي لحظة مع هبوب الرياح، وعليّ التمسك بشيءٍ ما حتّى لا أفعل. وصار تعلّقي بالأشياء خفيفاً بقدر خفّة ثقلي على الأرض، وشعوري بالتوازن النفسي قلّ كثيراً.
حين تُقارن بين الحزن الأدبي لدى هان كانغ كنموذج للأدب الآسيوي و"فيزياء الحزن" للبلغاري غيورغي غسبودينوف، تجد لديه نوعا آخر من الهشاشة النفسية القادمة من عبثٍ في منظور الحياة، أكثر منه عطبٌ نفسي مزمن. رغم أن كليهما يبدوان ممتدّين في الأجيال، فالراوي يعود إلى جدّه باحثاً عن أسباب التعاسة، في رحلة أنثروبولوجية في التاريخ والأسطورة والقيم والخلفيات الوجودية.
لدى كثيرين "فيزياء الحزن" أكثر قوة وأقرب للقارئ، لأنّها روايةٌ هائلة الإبداع، وتخوض في أبعاد الحزن البشري من دون أن تسمّيه مباشرة. وهي رحلة غير مباشرة في أعماق التّعاسة. أما "النباتيّة" فهي رحلة مباشرة محدّدة في سبب حزن أبطال هان، لكننا لا نقتنع بهذه الأسباب، فنجد أنفسها مع ندوب الطفولة لدى الأختيْن، ثم نضيع، لأن بقية الشخصيات لا تقلّ هشاشة عنهما، ولا نعرف لماذا.
في رواية "الأشياء تتداعى" للنّيجيري تشينوا أتشيبي تكمن لعنة الأفارقة في الآخر، وهو الرجل الأبيض، الذي احتل بلادهم. غير ذلك كانوا سعداء، رغم أن عاداتهم هي الأكثر منافاة للعقل؛ من عبادة الأرواح، وتمثيل كبار السنّ هذه الأرواح، وتصديق الآخرين ذلك، إلى ترك الرضّع قرابين للأرواح في الغابة، والزوجات العديدات رغم الفقر وقلة الغذاء... يبدو هذا كله قاسياً على الجميع، ومع ذلك لا يبدو أحدهم تعيساً لذلك، أو مصاباً بالهشاشة الحادّة.
لدى السود الأميركيين الرجل الأبيض مسؤول عن التعاسة أيضاً، مع ذلك يظل تأثير الجذور النفسية الأفريقية قويا، فلدى السّود طريقتهم في الابتهاج والاحتفال الصاخب بالحياة. لكن الرجل الأسود نفسه، عند نساء الأميركية السوداء آليس ووكر، هو سبب التعاسة، فهو عنيف وخائن وكسول... وبقدر ما يعاني من الرجل الأبيض، يُنفّس القمع على الزوجة والحبيبة والابنة، إلا الأم فهي المرأة الوحيدة التي تحظى بتقديره.
في الأدب العربي، المجتمع هو البُعبع في جلّ الرّوايات، والتعاسة مصدرُها المجتمع الذي يمثل لعنة الإنسان، امرأة أو رجلاً. رغم أن الرّجل نفسه الذين يطحنه المجتمع لا يتردّد في طحن المرأة ليكون جزءاً من الطّاحونة العملاقة للمجتمع. المجتمع هنا لا يقف عند الأسرة، يتمدّد إلى بيئة واسعة.