الجوهرة والرقيم
كان فناناً يصبغ الحجر بألوان الزهر، فتصير الحجارة زهورا من غير عبق، وكان يصطفي ألواح الحجر من قيعان الوديان، وجداول الأنهار. ألواح صغيرة، في جرم راحة كفِّ الطفل رقّة وعرضًا، ويرسم عليها لوحاتٍ حروفيةً جميلة، ويبيعها في الشارع، ويكتفي بقوت يومه، لا يزيد ولا يحيد، وكان يعثر أحيانًا على حجارةٍ نادرةٍ منها كرة تملأ الكف.
وكنت أزوره بين الحين والآخر في مرسمه، أضلُّ طريقي إليها كل مرّة أقصده فيها، لوعورة الطريق ووحشة السفر. في بيته موقدة، فإن كان الوقت شتاءً تدفأ عليها وشوى، وإن كان صيفًا طبخ فيها وخبز، فيتركني لشأني في كتابي، وينصرف إلى أصبغته. صادفته فسألني أن أقف مكانه وكيلًا، فوافقتُ على مضض، وإن له موعدًا لن يخلفه، ولم أكن قد بعت في حياتي شيئًا، كنت دومًا أشتري.
بعت عدة رقائق، وتعبت من الوقوف، فجلست على كرسي أوكورديون يطوى مثل السجل، سئمت، فجعلت أقرأ في قصةٍ بوليسيةٍ معي، ما لبثت أن وجدتُ نفسي أمضي في آثار المجرم الذي تسلل إلى فيلا وسرق جوهرةً نادرةً ليس لها مثيلٌ في الدنيا، وأغرته بيت خاشع فساقه فضوله أن يستطلع أمره.
حاولت كثيرًا تفكيك العبارات المكتوبة على وجه الألواح، فعجزت، وعلى ظهرها فغُلبت، وكان بعض الناس يشترون الرقائق رغبةً في فكِّ ألغاز عباراتها. كان صاحبي الفنان يصطاد قلوب زبائنه بطريقتين، فإن لم يعجبوا بألوانه، أسرهم خفاء عباراته الملثّمة، ووعورة حروفه، عرفت واحدة منها، عليها عجز بيت المتنبي: "فإنَّ المسك بعضُ دم الغزال". وكان اللوح الوحيد الذي رسم عليه من الوجهين، وثمنه أغلى من الألواح الأخرى.
ونويت أن أستهديه واحدة، ولم يكن صاحبي بخيلا، لكني استأنيت حتى يصير عندي بيت. ولم أنتبه إلى الصبيّة التي أشارت إلى لوحٍ من الألواح المعروضة، وأخذتُ النقود من يدها، ونظري معلقٌ بكتابي، وقد وثبت مع اللص فوق السور، وتسلّلت إلى مخدع سيدة البيت الخائع النائمة، فسُحر بجمالها وحسنها، وأسره شعاع النور الخافت من ضوء القمر على وجهها، فتيبس واقفًا مذهولًا، وأخذ بها وشغف، ثم خطر له خاطر.
انتبهت، فأحصيتُ الحاصل، والتبس عليَّ الأمر، ورجّحت أن السيدة الأخيرة نسيت دفع ثمن اللوحة، فتركت كتابي والسيدة النائمة واللص مسحورًا بجمالها، ما يزال واقفًا، هل يمكث فيرتوي من سحرها أم يعود على أدراجه، ولحقت بها في الزحام، وبلغتها واستوقفتها وأنا ألهث، فتوقفتْ، واستدارت إلي فنظرت إليها، فوجدت ما وجد الثعالبي: مطلع الشمس من وجهها، ومنبت الدرّ في فمها، ومزهر الورد من خدّها، ومنبع السحر من طرفها، ومبادي الليل في شعرها، ومغرس الغصن من قدّها، ومهيل الرمل في ردفها، حتى إني غصصتُ بريقي، وجمدتُ في مكاني، ولم أعد أعرف عدوي من صديقي، وفقدت طريقي، وشهقت، وقلت هذه أجمل امرأة رأيتها في حياتي.
وأظن أني توقفت عن النفس، وكدت اختنق، لولا أنَّ التنفس حتمٌ لا طاعة له في مُلك الإرادة.
رفعت نظارتها، وكان لا يزال اللوح في يدها فبانت عيناها، ورمت بسهميها في أشعار قلب مقتل، وكنت آيستُ، فرفعت يدي معتذرًا مستسلمًا، وعدت خطوة إلى الوراء حتى أنجو من السقوط، حتى أنه تهيأ لي أني كنت أحمل سكّينا وسقطت مني فصلصات على الأرض، ثم نبست بثلاثة أحرف، قطرت من ثغرها حرفًا حرفًا، مثل عسل التين الناضج، وقالت باسمة: نعم.
كانت يداي مرفوعتين كأنها شهرت عليَّ سيفًا، وكان عنترة قد اشتهى ثغر عبلة عندما لمع سيفه وودّ أن يقبّله، أمّا أنا فتذكّرت السيف عندما رأيت ثغرها، وأنا ذاهلٌ عن الناس حوالي يتدفقون، من اليمين والشمال، واقف في جفن الردى، وعجزت عن الكلام، ولم أكن بعتُ في حياتي شيئًا، كنت أشتري دومًا، وتمنّيت لو استطعت شراء خجلي في تلك اللحظة، ونسيت شأني كله، واستطعت أن أعتذر بابتسامةٍ انتزعتها انتزاعًا، وأعجمت وتلعثمت، ومددتُ يدي بمال الألواح الغامضة كله، وقلت كالمتسوّل اليائس، أقايض حياتي: سقط منك هذا.
وعدت بظهري القهقرى، غير مفرط في رؤيتها، أو متوقرا لحضرتها، من غير أن يرفَّ لي جفن، وانفتلت إلى ألواحي وكتابي، كانت الصبية نائمة، وشعاع الضوء يمسح وجهها، أو إنَّ وجهها جعل الضوء منيرا، واللص واقفٌ، ثم إنه جمع أمره، فترك الجوهرة فوق وسادتها، وتسلّل عائدا، لا يخالطه ريبٌ في أنه كفّر عن ذنبه، وردَّ الأمانة إلى صاحبتها.