الحاجّة "لافوازيه" تكتسي من البالة
نشرت صحيفة عنب بلدي تحقيقاً مصغّراً عن لجوء الناس الطفرانين، في مدينة اللاذقية، إلى شراء ثياب أطفالهم من محلات "البالة"، أي الثياب المستعملة، بالإضافة إلى تدوير سيدات المنازل اللاذقانيات الملابس القديمة، بالتطويل، والتقصير، والترقيع. أحبّ، أنا محسوبكم، هذا النوع من الرصد الصحافي لما يجري داخل أسر الفقراء. ولعلّ سلوى زكزك الوحيدة بين أدباء سورية التي اختصّت بهذا النوع من الكتابة، وتمكّنت من تقديم نماذج بالغة الروعة منه، لأنها تعيش بين الناس، لم تغادرهم منذ بدأت المحنة السورية الرهيبة، وقد شبّهها بعضُ متابعيها بالمؤرّخ الشامي القديم، البديري الحلاق، الذي ترك لنا كتاباً مهماً، عنوانه "أحداث دمشق اليومية".
ليس الفقر طارئاً على البلاد السورية. بالطبع، لذا يمكننا اعتبار موضوع الثياب المستعملة أقدم من معرفتنا "البالة" نفسها، بدليل المثل الشعبي "مَن قَتَّر ما جاع، ومن رَقَّع ما عري"، وهذا ليس كلاماً في الفراغ، بل أسلوب حياة متّبع، فالأبوان اللذان يخلّفان أطفالاً كثيرين، ويعانون، في الوقت ذاته، من ضيق ذات اليد، مُجبرون على التقتير... ومن ذكرياتي التي لا تُنسى: كنّا، سنة 1970، ندرس مادة الفيزياء، في الصف الثالث الثانوي، الفرع العلمي، ومرّ معنا قانون لافوازيه في انحفاظ المادة، وملخّصُه أن الطبيعة لا تُخلق فيها موادّ جديدة، ولا تفنى المواد الموجودة من قبل، بل تتحوّل من شكلٍ إلى آخر.. يومها، في الفرصة التي أعقبت الدرس، قال صديقُنا مصطفى: هذا لافوازيه مثل أمّي، فهي تأخذ قميص أبي العتيق، تقصقصه، وتخيّط منه قميصاً لي، والقصاصات الناجمة عن عمليات تدوير مختلف أنواع الألبسة تجمعُها، فإذا كانت متماسكةً تنسج منها "سجّادة خرق". أما إذا كانت مهترئة، فتحتفظ بها مع قصاصات مهترئة أخرى، وتصنع من مجموعها "كارَة" للتنّور، ولكي تفهموا كلامي، أقول إن قميصي هذا، الذي كان لوالدي، عندما يكبُر جسمي، لا بد أنها ستُعطيه لأخي سليم، وبعد سليم يلبسه مازن، قبل أن يصل، في رحلته النهائية، إلى قلب كارة التنّور. بعد هذه الشروحات، صرنا نمازح مصطفى، ونقول له: سلّم لنا على والدتك، الحاجة لافوازيه.
والحديث عن البالة، في سورية، ذو شجون، فحينما بدأنا نعرفها، في أوائل السبعينات على ما أذكر، وجدنا لها فوائد كثيرة، فهي توفّر على ربّ الأسرة مالاً كثيراً، ووقتاً كان يصرفه في أخذ أبنائه إلى الخيّاط مراراً حتى تكتمل عمليات القياس، ولكنها وجّهت ضربة قوية لمهنة الخياطين، وكان يندُر أن تجتمع بخيّاط لا يقول لك: البالة خرّبت بيتي يا خاي! وأهل إدلب يتداولون حكاية نادرة عن رجلٍ يدعى س، كانت له هواية في معرفة أسرار الراديو، اتفق، ذات يوم، مع جاره بائع القماش ص، على أن يصعد إلى السقيفة في دكّانه، ويوصل جهاز الإرسال بالراديو الموجود في الأسفل، ثم يدعو جيرانَه، ومنهم الخياط ع إلى كأس شاي. وبعد اكتمال الجلسة، بدأ س يذيع، بصوته الجهوري الرائع، نشرة أخبار مكتوبة باحترافيةٍ، توحي بأنها نشرة حقيقية، وفي آخرها قال: النبأ الأخير. نزولاً عند رغبة الإخوة المواطنين، وصلت إلى ميناء اللاذقية باخرتان محمّلتان بالبالة. وقبل أن يكمل الخبر، بدأ الخياط ع بالسّباب على البالة، وعلى مستوردي البالة، فانفلت الحاضرون بالضحك. وبعد قليل، نزل س من السقيفة، وأعلن أنه كان صانع المقلب!
اليوم؛ بعد المصائب الهائلة التي حلّت بشعب سورية، أصبح الشراء من البالة أمراً اعتيادياً، بعدما كان بعض الناس يخجلون منه، وما عاد أحدٌ يتّهم مَن يرقّع قميصه بالبُخل، مثلما فعل أستاذنا الجاحظ، الذي نقل عن البخيلة الأسطورية ليلى الناعطية بيتاً من الشعر له شكل النصيحة:
ارقعْ قميصَكَ ما اهتديتَ لجيبهِ/ فإذا أضَلَّكَ جيبُه فاستبدلِ