الحراك المصري بين الضربة القاضية والنقاط
يبدو أن نسق استمرار النسيان سيظل آفة الثورة المصرية، حتى تستيقظ من كبوتها، ويستطيع المهتمون بها سلوك درب تطوير أنفسهم ومراعاة أن نجاحها الأول في 11 فبراير/ شباط 2011 لم يأتِ لسبب واحد، بل تعدّدت عوامله وتكاتفت موجبات التغيير، بداية من اجتماع جميع أطياف المقاومين لنظام حسني مبارك، وتململ الجيش وعدم رغبته في توريث الحكم لجمال، نجل مبارك. ومن تلك العوامل التي أنجحت الثورة، اقتناع الولايات المتحدة بعدم جدوى استمرار حكم مبارك، أو قدرته على تقديم مزيد من الخدمات لها أو لحليفها الكيان الصهيوني.
نشر "العربي الجديد" (28/ 9/ 2019) مقالاً لصاحب هذه الكلمات عنوانه: "الحراك المصري بين الضربة القاضية والنقاط"، بعد أن أسفر الحراك المصري في تلك الآونة عن لا جديد مباشر، أو عدم وجود حل ناجح لإنهاء أزمة حكم عبد الفتاح السيسي الدموي المستبد. ويبدو أن هناك حاجة للتذكير بنقاط أساسية انطلق المقال السابق منها، مع تطويرها بما يناسب واقع اليوم.
افتراض خروج المصريين بكثرة، كما في جمعة الغضب في 28 يناير/ كانون الثاني 2011، أو تسمية أيام جمعة أخرى بـ"جمعة الغضب"، كما في 16 أغسطس/ آب 2013 عقب مذابح ميداني رابعة العدوية والنهضة، وميادين أخرى، منها مصطفى محمود، وعشرات الوقفات السلمية في المحافظات؛ وأخيراً كما في جمعة 25 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) سيناريوهات درسها النظام المصري الحالي، بل أعد خططاً عسكرية مخابراتية بعيدة المدى وقريبته لوأدها جميعاً؛ ومع ذلك فإن الآمال في تغيير هذا النظام، بداية من الطرق السلمية، لا تزال ممتدة، بشرط توافر عدة أمور، منها:
الأول: عدم الاقتناع بأن التظاهرات وحدها كافية لتغيير النظام، بل هي جزء من أطر تغييره في هذه المرحلة، خصوصاً بعد تعديل آليات المواجهة، ونزول الجيش بثقله وعتاده وسلاحه اللذين لم يُستخدما خارجياً، وإنما يوجهان إلى صدور الشرفاء المخلصين داخلياً. ومع عدم القناعة بأن الجيش كله على قلب رجل واحد، كما تقتضي أبسط قواعد التحليل المنصف من عدم التعميم، إلا أن قادةً في هذا الجيش على الأقل متعاونون مع الخونة.
بدأت تسقط مقولة حماية السيسي البسطاء بتقوية الدولة في مواجهة الاضطرابات، كما يدّعي هو وأنصاره
ومن سبل تغيير النظام المصري تكاتف عوامل مجتمعة، كما في "25 يناير" من اقتناع دولي، خصوصاً لدى الولايات المتحدة، بأن السيسي لم يعد يصلح خادمها المطيع، أو أنه لم يعد مؤهلاً لتقديم مزيد من الخدمات لحليفه الكيان الصهيوني، وهو أمرٌ يبدو بعيداً وسط عدة تصريحات، قبيل قول الكاتب يدان مرغليت في "إسرائيل هيوم": "سنبكي دماً لأجيال، إن سمحنا بسقوط السيسي"، إلا أن المصريين إذا نجحوا في إقناع العالم بأن السيسي صار ورقة محروقة، لا يُطاع داخلياً؛ وفي وجوده خطر على تماسك مصر، فسينجحون في خلخلة المنظومة النفعية الدولية التي تضرّ مصر ضرراً كبيراً اليوم.
ثانياً: الابتعاد عن استنساخ الأحداث، والسعي نحو تكرارها، يمكّن من النجاح في إيجاد عوامل كبرى لإسقاط النظام، لا السيسي وحده. الأهم والأجدى أن تستمر المقاومة، لكننا إذ نكرّر اسم "جمعة الغضب" مثلاً نستدعي حراكاً حاسماً سريعاً نعرف أنه لن يتكرّر؛ فلماذا لا نصرف هذا الجهد في ابتكار وسائل وأدوات متجدّدة للمقاومة، ولماذا لا يجتمع المختصون من جميع الفئات والمجالات وأطياف المقاومة من أجل ذلك؟ وإذا كنا لا ندعو إلى تصاعد العنف، فلماذا لا نغيّر من تكيكاتنا وطرق مواجهتنا، خصوصاً أننا، هذه المرّة، لا نهدف إلى إسقاط رأس النظام، بل دولاب دولة؟
المعركة مع السيسي طويلة، سواء بسواء، كعضّ الأصابع طويل الأمد، أو لعبة الملاكمة الممتدّة التي تحسمها النقاط، لا الضربة القاضية.
ثالثاً: بدأت تسقط مقولة حماية السيسي البسطاء بتقوية الدولة في مواجهة الاضطرابات، كما يدّعي هو وأنصاره؛ فأولئك الضعفاء الذين لا يملكون إلا لقمة عيشهم صاروا مستهدفين من النظام الغبي الأحمق، الحاكم الذي تكبّر وفهم أن واقع البلاد قد دان واستكان له؛ وخروج هؤلاء أخيراً، وفق تجدّد دعوة المقاول الفنان محمد علي، سبب إرهاقاً وصدمة للنظام والمقاومين معاً، فقد كلّف ذلك الأول نشر تشكيلاته العسكرية عند القرى وحدودها مع المدن، وهو الذي لم يعتد منها ثورةً من قبل، ولكن هدم البيوت وارتفاع الأسعار يكلفه وسيكلفه الكثير. وفي المقابل، جاء خروج فئات جديدة على حساب معتادي الخروج والتظاهر في العاصمة والمدن الكبرى الذين أرهقهم القمع، وتكرار المطاردات يلقي بظلال مسؤولية على المهتمين برصد الحراك الثوري في سبيل تناغم ذلك.
ثمّة تغييرات على الواقع تدعو إلى شيء من الأمل المتراكم، ولكن مع عدم بناء مزيد من الأحلام، ولا نقول الأوهام المتكرّرة التي لا تفضي إلا إلى الآلام النفسية. التوازن مطلوب، ومعرفة أن بقاء النظام الحالي مرهونٌ بقدرته على تطوير وتجديد آلياته في الظلم والارتقاء بها، فلا أقل من أن يكون مقاوموه على مستوى التحدّي وتجويد العمل ومراقبة أحوال النظام الدولي والإقليمي، ومحاولة التأثير عليهما. فالمعركة مع السيسي طويلة، سواء بسواء، كعضّ الأصابع طويل الأمد، أو لعبة الملاكمة الممتدّة التي تحسمها النقاط، لا الضربة القاضية.