الحربُ التي أنقذتني من الوهم
إن قدّرت لي النجاة من هذه الحرب، فأنا بحاجة لعلاج نفسي طويل، لكي أتجاوز كل ما مرّت به نفسي، وعانت منه روحي، وإن قُدّرت لي النجاة أيضا من هذا الجنون الدائر حولي، فعليّ أن أجثو على ركبتي في مكان هادئ وبعيد، ربما يكون محطتي الآمنة التي دعوتُ الله كثيرا أن أبلغها، وجدتُ بدموع غزيرة كي أرى مشارفها، لكي أعترفَ الاعتراف المتأخّر، أو لكي أكرّر لنفسي الاكتشاف المراوغ والحقيقة المريعة، أن النساء لا يصلُحن للحب في وقت الحرب بحكم العالم، وليس بحكم القلوب.
جاءني صوتُه بعد أكثر من شهر من الحرب الطاحنة، وتقافز قلبي بين حنايا صدري، وأصلحتُ، لا إراديا وأنا ألبّي نداء هاتفي الذي قليلا ما يصبح صالحا ليقوم بمهمته الحقيقية، زينة وهمية، رغم أنني كنت أعرف أنني لم أحصل على حمّام بمعنى الكلمة منذ بداية الحرب، وفقدتُ عطري المفضّل في بيتي المعدم. أما أحمر الشفاه الوحيد الذي يغيب دوما في ثنايا حقيبة يديّ، فقد غاب من دون مبرّر للغياب سوى معنى كلمة حرب. وهكذا جاءني صوتُه، فتنحنحتُ قبل أن أجيب نوبة سعال سريعة وقصيرة، ولكن ذلك كان كافيا لكي أتخلّص من بحّة صوتي التي أصبَحت تلازمني بسبب العطش المستمر المهلك لخلايا جسدي، وصبري على نصيب يومي ضئيل من الماء.
عندما جاءني صوتُه، عادت بي الذكرياتُ، وتذكّرتٌ أول قبلةٍ طبعها على شفتي مراهقة خجول بضفائر طويلة وحمرة خدود مشتعلة على الدوام، وحين تركهما ترك بداخلها أكبر كذبةٍ وأكبر وهم عاشت بهما ومعهما عمرا خالتْه دهرا، وظلت تتنهّد بقلبٍ مثقل، وهي تستذكر انزلاق شفتيه من فوق شفتيها، حتى انزلق العمر منها، ولم تستطع أن تنجو من الكذب والوهم.
جاءني صوتُه، وتذكّرت كيف باعدت بيننا غربةٌ كتبت على شعبٍ بأكمله، وكيف أصبح يتحدّث عنا بأننا أهل غزّة فيما احتوته بلاد المال والنفط، وقد ظلت طيلة سني الغربة ترسم صورةً بائسة عني لديه، بسبب ما نال الغزّيين من بؤس.
كنتُ أتمنّى لو حدّثتُه أنني مثل أي أنثى لها عطرها المفضل، وأنني أهتمّ بأناقتي الوقور، وأتابع خطوط الموضة التي تناسب عمري، وأنني أعتني ببشرتي وأظافري. وكلما سنحت الفرصة، ورغم صعوبة ظروفي، وثقل مسؤولية الأولاد، إلا أنني لم أكن أترك لخطوط الشيب أن تغزو سواد شعري، وكنتُ أتمنّى أن أخبره أنني لا زلت أرتعش، حين أسمع أغنية عاطفية، ويرتعش قلبي على وقع حوار رومانسي عابر، وأن من الظلم أن يعتقد أن نساء غزّة لا يصلحن إلا للبكاء والعويل!
وقد حاولتُ وكافحتُ لكي أنتشل نفسي من الصورة تلك التي عذّبت قلبي، وبقيت خارج إطارها بداخلي فقط، وصدّقت الكذبة التي انتشرت في العالم، وفاحت رائحتها، خصوصا في ظلّ الحرب، والعالم يرى جهادنا من أجل إعداد لقمة خبز بواسطة نار الحطب، وعدم قدرتنا على الحصول على حمّام منعش، بعد أن تعبق ملابسنا برائحة الدخان، وتتلوّث ملابسنا بالرماد
وهكذا، واليوم، وحين جاءني صوته، وأنا أكافح لأعيش، وأكافح لأنجو، فتلاشت قناعاتي بأنني قد وضعتُ نفسي خارج إطار الصورة البائسة، لأنه لم يقل لي لو كلمة شوق، أو حتى ألمح في نبرة صوته لهفةً مثل نسمة صيف.
كان صوتُه جامدا وواضعا لنهاية الخديعة، وهو يسألني بعد تحيةٍ وعبارات مواساةٍ يقولها الجميع، فكان سؤالُه إن كنت بحاجة لبعض المال، واكتشفتُ بعد ذلك أن اتصاله الهاتفي كان عامّا لكل أفراد العائلة، ولم يكن خاصا لي، فتضاءلتُ أمام نفسي، ولملمتُ جراحي، وانزويتُ كعادتي في زاوية الغرفة في بيت الإيواء، وقد أسقط بين يدي.
ها أنا أعيش الحقيقة، وأنه لم يكن حبّا وأن الحبّ الحقيقي كان حبّي حلمي أن أعيش في سلام وأمان مع أولادي وأبيهم، فالسلام والأمان هما المرادف الحقيقي للحبّ.