الحرب على غزّة وأزمة الديمقراطية الغربية
لم يعد الحديث عن أزمة الديمقراطية الغربية موضوعاً هامشياً، لا في الأوساط السياسية، ولا مقتصراً على أصحاب النظرية النقدية للديمقراطية الليبرالية جذرياً، ولا حتى على أطروحات "نظريات المؤامرة" (كانت تُتهم فترة طويلة بأنّها مرتبطة بأمراض ذهنية، ثم أصبحت تمثل ثقافة مركزية حتى في أعتى الديمقراطيات)، بل هنالك اليوم تيار أكاديمي وفكري واسع في الغرب نفسه يتحدّث بوضوح عن أزمة الديمقراطية الليبرالية، وهنالك كتب ومقالات فكرية ودراسات أكاديمية تحلل طبيعة المرحلة الجديدة، من مدخل صعود الحركات الشعبوية أو من مدخل تصاعد دور وسائل التواصل الاجتماعي في إعادة صوغ المجال العام والسياسي وتعزيز مأزق النخب السياسية، حتى في الدول والمجتمعات التي تمتعت بسمعة ديمقراطية طويلاً.
مثّل صعود اليمين الأوروبي ثم "الترامبية السياسية" صدمة كبيرة للنخب التي طالما تحدّثت عن الديمقراطية وآمنت بها، ورأينا صاحب كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، فرانسيس فوكوياما، نفسه يعيد طرح السؤال عن مدى قدرة النظام الديمقراطي الليبرالي على حلّ مشكلات الهوية والقومية في كتابه المهم "الهوية: مطلب الكرامة وسياسات الأشياء". وعلى الصعيد الأكاديمي، طرح مقاربة "ما بعد الديمقراطية" باحثون ومفكّرون عديدون، مثلما فعل مارتن وولف في كتابه الصادر حديثاً "أزمة الديمقراطية الرأسمالية"، وكذلك فعل كلاوس فون بايمه (أستاذ العلوم السياسية في جامعة هايدلبرغ) في كتابه المهم "من مرحلة ما بعد الديمقراطية إلى مرحلة الديمقراطية الجديدة" (ترجمة سيد فارس ومراجعة يوسف معوض، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023)، وقد أصبح الموضوع شاغل مفكرين وباحثين معتبرين كثيرين، كما فعل المحلل البريطاني ديفيد غودهارت في كتابه عن الشعبوية في بريطانيا والولايات المتحدة، بالتوازي مع صعود كتابات أكاديمية وبحثية عن صعود الشعبوية وارتباطها بأزمة النظام الديمقراطي (يمكن الإحالة هنا إلى كتاب عزمي بشارة "في الأجابة عن سؤال ما الشعبوية؟" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019)، أو حتى كتاب بانكاج ميشرا "زمن الغضب.. تأريخ الحاضر"، (ترجمة معاوية سعيدوني، عالم المعرفة، الكويت، 505 إبريل 2023، أشار إليه مقال سابق لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد").
تناولت أغلب الأدبيات والأفكار السابقة أزمة الديمقراطية من منظور داخلي، بخاصة الصدمة في الدول الغربية، لكن الحرب على غزّة اليوم تعيد طرح السؤال والتساؤل على مستوى أعمق بكثير، سواء على صعيد قناعة العالم، بخاصة الشعوب العربية والمسلمة، بمقولات الديمقراطية من خلال سلوك دول ديمقراطية غربية عديدة، بخاصة أميركا وبريطانيا وألمانيا، تلك التي طالما تحدّثت عن الديمقراطية ودعمها وقضايا حقوق الإنسان والحريات العامة، وإذا بها تغضّ الطرف عن مقتل عشرات الآلاف وتحطيم عشرات الآلاف الآخرين وتدمير مجتمع كامل في ظل صمت رهيب من الدول الديمقراطية، ما ستكون له بالضرورة آثاره الكبيرة على الجيل الشاب في المنطقة العربية والموجات الفكرية القادمة التي ستتأسّس على تشكيك كبير في معنى الديمقراطية، سواء ممن كانوا يطالبون بها عربياً وإسلامياً، أو ممن يعارضونها ويوظّفون السياسات الغربية الراهنة في سبيل تعزيز حججهم ضد الديمقراطية!
المأزق الحقيقي يتمثّل في موقف المفكّرين والجامعات والأوساط الأكاديمية التي كانت في مرحلة غيبوبة في الفترة الأولى، ثم تحوّلت إلى الضد حالياً عبر حركة طلابية واسعة وعريضة انتقلت من الجامعات الأميركية إلى الأوروبية، ونشهد حالياً عملية قمع هائلة واعتقالات بالآلاف للطلاب والأساتذة الجامعيين، ما يعزّز (ويجذّر) الأسئلة والتساؤلات الهائلة بشأن مآلات النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي الراهن.
يزيد الطين بلّة المشهد السياسي في هذه الدول الديمقراطية وما أصبح يفرزه من نخب سياسية صادمة، فهل عجزت الولايات المتحدة التي تمتلك هذا الكمّ من الجامعات الأعلى على مستوى العالم، وفيها المدارس والمختبرات السياسية والعلمية والأكاديمية الباهرة، عن أن تنتج مرشّحين أكثر عمقاً وحيوية من المرشّحين الحاليين في ظل أزمة كبيرة في الحياة الداخلية الأميركية؟!
... ستكون هنالك تداعيات وارتدادات هائلة على مستويات عميقة للحرب على غزّة خلال الأعوام المقبلة.