الحفلة
يتسرّب خبر خروج الناشط المعروف من السجن، بعد سنواتٍ في ظلام الزنزانة، عادة تكون الفترة المتبقّية على الإفراج عنه كافية لكي يتأنّق نجوم إطلالات حفلات الاستقبال، ويصلون إلى منطقة التصوير ليكونوا أوّل من يحتضن الحاصل على منحة العفو من السجّان الذي تنهال عليه عبارات الشكر على كرمه وإحسانه وإنسانيّته المفرطة.
في الأثناء، يكون المتحاربون المشتبكون حول معنى العدل والحرية قد استعدّوا بالأرشيفات، فريق يستخرج من الذاكرة ما يدين الناشط المفرَج عنه من مواقف وأفعال وكلمات، والفريق الآخر يستدعي من القواميس تعريفاتٍ محنطّة للإنسانية والتسامح والغفران، ثم لا يتهاون في جلد الموجوعين والمكلومين الذين لا يتوقّف عندهم قطار العفو والعدالة أبدًا.
يبدو في أحيان كثيرة أن صاحب صكوك العفو يختار بعنايةٍ أسماءً بعينها في مواقيت بعينها، وهو مدركٌ تمامًا أنه سيضرب كل الأطراف ببعضها، ويُشعل حفلًا صاخبًا من التراشق والتخوين والتكفير على إيقاعات الهوى الأيديولوجي وطبول الشللية، ما يحرق كل احتمالات اللقاء المشترك على أرضيةٍ واحدة، ولعل هذا ما يفسّر الإصرار على الدفع بالوجوه المحترقة سياسيًا وإنسانيًا لكي تتصدّر اللقطات الأولى للترحيب بالخارج من الزنزانة.
سنوات عديدة مضت والسيناريو ثابتٌ لا يتغيّر، معتمدًا بالكلية على تحويل الاحتفال بحرية فرد أو بضعة أفراد إلى حلبةٍ للمصارعة الأيديولوجية، تُراق فيها معاني الحرية والعدل والإنسانية ذاتها، لتتواصل لعبة حرب الكلّ ضد الكلّ التي يديرها بذكاء حامل مفاتيح السيرك القومي، ويعرف كيف يوزّع الأدوار فيها، مع مراعاة أن يبقى هنالك دور محوري في العرض للثنائي حمدين صبّاحي وخالد يوسف، واللذان يضمن وجودُهما درجة عالية من ابتذال المناسبة وتحويلها إلى ساحة حربٍ في ساحات التواصل الاجتماعي. ولعل هذا هو أحد الأهداف الرئيسية من فرمانات حريةٍ من هذا النوع، فضلًا عن مساحاتٍ للهروب من كوارث وفضائح سياسية مشتعلة. أو كما قلت سابقًا الوصول إلى الهدف تطلب من السلطة الحالية قطع خطوط الاتصال بين القوى الحية والفاعلة من النخب الثقافية والسياسية، وبين الجماهير، ثم الانفراد بهذه الجماهير وحقْنها بقيم وأفكار تحتقر مفهوم الحرية السياسية، وترى في المعارضة كل أشكال المعارضة وأحجامها عدوانًا على سلامة أراضي الوطن، وإرهابًا يستهدف أبناءه.
الشاهد أن حجم النشر وكثافته عن خروج سجين واحد بعفو رئاسي، وتحويل المسألة إلى احتفال بالحرية أمر يضرّ بقيمة الحرية نفسها، إذ تتحوّل هنا إلى سلعةٍ تباع وتشترى وتهدى أحيانًا، وفي أحيان أخرى، تكون بمثابة صفقة أو رشوة لمراضاة شريحةٍ معينةٍ وشراء صمتها عن كوارث اقتصادية وسياسية في الداخل والخارج.
مؤسفٌ أن ينكمش مفهوم الحرية إلى حرية أصدقاء بكوات الحوار الوطني والعفو الرئاسي، أو أصدقاء حمدين صبّاحي وخالد يوسف، بدلًا من أن تكون الحرّية للإنسان بما هو كذلك، وليس بحساب قربه من طبقة الوسطاء بين السلطة والقوى السياسية.
مرّة أخرى، يتأكّد أن ثمة خضوعًا لمنطقٍ كريهٍ، يقول إن معركة الحرية باتت فردية، وبالحد الأقصى فئوية أو شللية، إذ ضاقت الشعارات إلى الاكتفاء بالقول "الحرّية لفلان" وفي الفقرة الأخيرة من الحيثيات الفضفاضة للمطالبة بحرّية هذا "الفلان" تلصق عبارة "ولكل سجناء الرأي".