الخبز "المغمّس" بالدم في غزّة
في صغري، وعندما كانت أمي تعدّ الخبز في البيت، وكنتُ أجلسُ قبالتها لمراقبتها وهي تقوم بهذا العمل الجبار، فتقطيع العجين إلى كراتٍ متساويةٍ تماما ليس أمراً سهلاً، ومدّ تلك الكرات بقطعة خشبية على شكل أسطوانة رقيقة لتصبح أرغفة لها السُّمكُ وطول القطر معجزة ما زلت أخفق في عملها. وأقسمت أمي ألف مرة أنني سأكون زوجة فاشلة، فرأس مال الزوجات، في نظرها، إجادة إعداد الخبز المنزلي. ورغم فشلي في إعداد الخبز كما كانت تعدّه أمي وجاراتنا، كنت موكلة بحمله والذهاب به إلى جارةٍ تخبزه في فرن الطابون، وهذه مهارة أخرى لا تجيدها كل النساء أيضا حتى أمي، وتترك لنساء ماهرات، قويات البنية، قادرات على تحمّل حر النار والشمس في آن واحد.
مرّ الزمن، وتطوّرت الحياة، وتوقفت غالبية النساء عن إعداد الخبز في البيوت، وأصبح الحصول عليه من المخابز الآلية الخيار الأسهل والأسرع، وإن احتفظت بعض البيوت الريفية بأفران الطابون في زوايا بيوتها، وظلّ الآباء والأجداد على حبّهم الخبز الذي يصنع ممزوجا برائحة خشب أغصان الزيتون، وأطلق على هذا الخبز اسم "خبز التراث"، حتى جاءت هذه الحرب الضروس لكي تعيد طقوس إعداد الخبز في الخيام، وبقايا البيوت المقصوفة والمهدّمة. وتوزعت أفران الطابون بأحجام وأشكال مختلفة، حتى على قارعات الطرق وفي الساحات، وبات الخبز الذي يعد بواسطة الطابون هو مصدر الغذاء الأول، وربما الوحيد، للغزّيين الذين يكابدون مشقة حياة النزوح والتشرّد، والناجين لوقت غير معلوم من موتٍ ما زال فاغرا فكّيه القاطريْن دماً، في شهوةٍ لا تتوقف لمزيد من دمائهم ولحمهم.
أصبح الخبز مصدراً للرزق في غزّة مع هذه الأحوال البائسة وتقطّع سبل العيش، فهناك نساء يعددنه ويبعنه للحصول على بعض المال، وبالتالي توفير متطلبّات أخرى، وهناك رجال امتهنوا صناعة أفران الطابون وبيعها، وأقبل الناس، على اختلاف فئاتهم، فالفقير والغني وابن القرية وابن المدينة ومن كان يقطن في كوخ وصاحب القصور سيان وسواء في التنافس على شراء فرن طابون ينتج الخبز الساخن، وفي أحيان أخرى يستخدم لتسخين الماء وإعداد القليل من الشاي، بل إن الرجال دخلوا إلى حلبة المنافسة مع النساء، فأصبحوا يقومون بتجهيز الخبز بأعداد كبيرة للعائلات التي لا تجيد نساؤها الخبز على الطابون، أو للعائلات التي ما زالت تحتفظ ببعض المال، فتحصل على الخبز من دون مشقّة الجلوس أمام لفح النار.
في هذه الظروف الحزينة والمؤلمة، والتي عشتُ شطرا منها، ثلاثة أشهر أمضيتها في مدينة رفح، محطّة نزوحي الرابعة، لم أكن أتناول مع أولادي سوى الخبز، وتعلّمت إعداده من النساء المحيطات بي في الخيام، واللواتي ربطتني بهن أشياء كثيرة مشتركة كألم النزوح وفقدان الخصوصية وحميمية البيت البعيد. وكلما أوغل شعور الفقد في قلبي، كنت أتقن الخبز كامرأة حاذقة أمضت عمرها كله أمام فرن الطابون، حتى تمنّيت لو كانت أمي على قيد الحياة، وترى بأم عينيها مهارتي.
عبد الله الفرّا شابٌّ من خانيونس، كان يحمل الخبز فوق رأسه عائدا إلى بيته المقصوف بجوار مقبرة المدينة القديمة، والتي تتوسّط السوق المركزي فيها. وكانت رائحة الخبز الشهية تملأ أنفه وتحرّك أمعاءه الخاوية، فيُسرع خطاه أكثر لكي يضعه أمام أفراد أسرته الجوعى، ولكن الموت كان أسرع، فعاجله قصفٌ صاروخيٌّ في المكان، فوقع مضرّجا بدمه وتغمّس الخبز بدمه.
في اللحظة نفسها، عاجل الموت امرأة في إحدى مدارس "أونروا" في دير البلح، وسط القطاع، وحيث لجأ الآلاف للمدارس كمراكز إيواء لهم بعد قصف بيوتهم ونزوحهم من أماكن شتى. وكانت هذه المرأة لم تفرغ بعد من تحويل العجين إلى أرغفة متساوية القطر، رغم أنها تجيد ذلك فعلا، ولكن الموت كان يجيد الصيد والاقتناص أكثر منها، فتحوّلت أشلاء، وبقي العجين في انتظار أن يتحوّل إلى أرغفة، وأن تحتضنه نار فرن الطابون، ولكن نيران القصف حوّلت كل المكان إلى أتون مستعر، وظل العجين في ركن قصي شاهداً على مجزرة بحقّ البؤساء الجوعى.