السلطوية الجديدة وأزمة الـIQ
حافظت نظم عربية كثيرة على طبيعة النظام السلطوي بعد الربيع العربي، لكنّها انتقلت إلى مرحلةٍ جديدةٍ تتجاوز الديناميكيات والسمات التي جُبلت عليها قبل لحظة الربيع العربي، عموماً. ولعلّ أبرز التغيرات الواضحة يتمثل في إغلاق المساحات التي كانت متاحة سابقاً للمعارضة السياسية، وتضييق سقف الحريات الإعلامية التي كانت متاحةً قبل ذلك، وتعزيز القبضة الحديدية على القوى السياسية والمجتمع المدني، وعدم الاكتراث بالأجندات الدولية وبيانات المنظمات الحقوقية والإنسانية وتصنيفاتها، كما كانت الحال سابقاً.
قال لي أحد العاملين البارزين في الفن في العالم العربي إنّ كلفة المعارضة والانتقاد والسخرية السياسية اليوم لا تقارن بما كانت عليه قبل الربيع العربي، فالمعادلة حالياً صفرية Zero - Sum Game مع الجميع. لا مجال للألوان المتعدّدة والمعارضة المتدرّجة والانتقادات المختلفة، فإمّا مع النظام أو مع الأعداء والخصوم، ما أدّى إلى تخوين (وتصنيف) شخصياتٍ سياسيةٍ عربية لم تكن في أيّ وقت محسوبة على المعارضة أو في صفوفها، بل كانت نقديةً تجاه الاثنين؛ النظام والمعارضة، فيما يبدو أن "قارب الأنظمة" اليوم لا يتسع إلًا لنوعيةٍ معينةٍ من الناس لا تحمل مشروعاً أو فكراً أو حتى قدرة على تقديم نظريات وأفكار مقنعة للشارع، لدعم تلك السياسات الرسمية!
كانت هنالك نخبٌ سياسيةٌ استندت إليها الأنظمة العربية السلطوية في مرحلة ما قبل الربيع العربي، سواء على الصعيد السياسي أو الصعيد الإعلامي والثقافي والتنظيري، فكان هنالك خطابٌ متماسكٌ صلب تجده يسند تلك الأنظمة ويقف معها ويقدّمها في إطار مشروع أيديولوجي وسياسي له قواعد شعبية.
كانت هنالك مشروعات ونخب تحملها تمتلك عمقاً ثقافياً وسياسياً وعلمياً، وعندما تشتبك مع خطاب المعارضة، فلديها ما تقوله وتقدّمه للشارع. والأهم أنّ ماكينات النظام كانت لديها القدرة على احتواء وامتصاص شخصيات ونخب من المعارضة الأيديولوجية والسياسية وتدويرها مع النظام وليس ضدّه، ولتساهم في تخصيب خطابه وقدراته الرمزية والإعلامية والثقافية والأيديولوجية.
أمّا اليوم فهنالك تحوّل ملحوظ في مستوى الذكاء IQ، بل أزمة فعلاً، إذ اختفت النخب المثقفة والسياسية والإعلامية الداعمة لتلك الأنظمة السلطوية، ولم تعد موجودة، إما توارَت أو صُنّفت على المعارضة، وظهرت محلها نخبٌ سطحية هشّة ضحلة. سياسياً لا تملك خطاباً مقنعاً، ذات تلون فاقع بلا أي مضمون قادر على الاشتباك الحقيقي مع الشارع. وإعلامياً ضحلة لا تتقن غير الصراخ والشتيمة والاتهام. وأيديولوجياً ليس لها أيديولوجيا إلّا مصالحها الذاتية. لم يتبق هنالك أي وعود أو أوهام يمكن بيعها للجماهير، فقط أيديولوجيا الخوف والتخويف ونخب مفرّغة من كل معنى أو حلم أو قيمة.
لم تعد النظم العربية، عموماً، تحتمل ليس فقط المعارضة السياسية الواقعية العقلانية، بل حتى الأصوات الراشدة في داخل أبنية "السيستم" نفسه؛ من يجادل أو يناقش أو ينصح ويقول هنالك مسارات أخرى أو سياسات أفضل حتى لمصلحة تلك الأنظمة نفسها، بل بات أيّ صوتٍ يخرج عن اللحن المتشدّد المغلق يعتبر صوتاً مارقاً، أو "عدواً" من الداخل!
هل هو تحوّل مرتبطٌ بما حدث في المجتمعات وانهيار الأيديولوجيات والأحلام الكبرى، التي كانت تسوّق سابقاً للجماهير بوصفها مفاتيح الخلاص، فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية والقومية العربية ومواجهة الإمبريالية أو بناء الدولة الحديثة، أم أنّها السياسات السلطوية الجديدة التي لا تقبل إلاّ مستوياتٍ دنيا من الذكاء، ولا تتحمّل تلك النخب المثقفة والسياسية والإعلامية التي كانت تتحمّلها الصيغة السابقة من السلطوية العربية، أم الأمران (الأمرّان) معاً!
لا أزعم أنّ هذا المقال مبني على أبحاث علمية؛ إنما على ملاحظات عملية مباشرة من واقع ما آلت إليه السلطويات العربية الجديدة، وهو ما يمكن معرفته ليس فقط بالأخبار، بل بالمشاهدة أيضاً، كما كان ابن رشد يقول في نقده نظاماً وحداني التسلّط في زمنه.