الشركات الأهلية في تونس ... من فكرة استعمارية إلى يوتوبيا سياسية
لم يكن مصطلح الشركات الأهلية متداولا في وسائل الإعلام في تونس، وفي المعجمية الاقتصادية والسياسية، ولدى مختلف النخب الفكرية التونسية التي عاصرت دولة الحزب الواحد (1956-2011) والدولة الديمقراطية (2011-2021)، فقد سادت تسمياتٌ أخرى، من قبيل التعاضديات والتعاونيات والجمعيات التعاونية.
ويعود هذا الهجر الاصطلاحي إلى الطبيعة التحقيرية والوصم الذي اتسم به مصطلح "الأهالي" ومختلف تفرّعاته في الإتيمولوجيا الاستعمارية، وهو مصطلحٌ تقابله في اللغة الفرنسية كلمة "الأنديجان"، ويطلق في الكتابات الاستعمارية الفرنسية على "الشركات الأهلية" و"السكان الأهليين" و"المجتمعات الأهلية" وكل ما له علاقة بتلك المجتمعات التي خصّتها فرنسا الاستعمارية في تونس وفي غيرها من المستعمرات بإدارة، ومؤسّسات وتنظيم أمني وعسكري وتشريعات وقوانين واقتصاد وتعليم، وبمؤسّسة بحثية، تحتوي على مئات أعمال البحث ومذكرات الضباط الفرنسيين حول "المجتمعات الأهلية"، هي "مركز الدراسات العليا حول الإدارة الإسلامية" قبل أن يتغيّر الاسم إلى "مركز الدراسات العليا الإدارية حول إفريقيا وآسيا الحديثتين"، وتناولها بالبحث والدرس الضابط الفرنسي شافان في كتابه "تاريخ مكتب الشؤون الأهلية في تونس 1881-1930" (ص 248) الصادر سنة 1931 بمناسبة خمسينية الاحتلال الفرنسي.
اللافت في تجربة الشركات الأهلية التي نشأت أول مرّة في الفترة الاستعمارية اقتصار رأس المال وقوى العمل فيها ومجالات أنشطتها وأسواقها على المجتمع الأهلي التونسي المشكّل في غالبه آنذاك من القبائل والعروش والإثنيات الذين تربطهم علاقات القرابة والدم الحقيقية أو الوهمية، وهي وسيلةٌ رئيسيةٌ لتبادل السلع والخدمات بين السكان الأهليين، فهي أحد أشكال تنظيم الاقتصاد الأهلي القائم على الكفاف ومحدودية الإنتاج لضيق أسواقه وارتباط تلك الأسواق بالروابط القبلية والعشائرية، فهو اقتصادٌ هامشي محدود مقارنة باقتصاد السوق الاستعماري القائم على نهب الثروات المنجمية وغير المنجمية وافتكاك الأراضي والعقارات من أصحابها وإجبار الناس على دفع الضرائب والإتاوات، وعلى قوّة رأس المال والإنتاج من أجل التصدير، وعلى مبدأ العرض والطلب والوفرة والربح. لم تظهر الشركات الأهلية بمنحاها الأهلي المحلي والإثني في تونس المستعمرة الفرنسية فقط، وإنما نشأت كذلك في مستعمراتٍ فرنسيةٍ أخرى، على غرار الجزائر ومدغشقر وأفريقيا الغربية والهند الصينية، وفق ما ذكره المؤرّخ التونسي، محمد ضيف الله، وقد كتب "في القانون المنظم للشركات الأهلية في الجزائر كما ورد في جريدة لاغازيت ألجيريان بتاريخ 11 مارس 1893، تهدف هذه الشركات إلى المساعدة والإسعاف الوقتي للعمال الفلاحيين والفلاحين الفقراء من الأهالي بتمكينهم من قروض سنوية لتطوير زراعاتهم وتحسين أدواتهم وقطعانهم، ولا تنشأ إلا شركة أهلية واحدة بكلّ بلدية وأنه لا ينخرط فيها إلا الأهالي الذين لهم مساكنهم فعلا بالبلدية".
معلوم حماسة الرئيس التونسي الشديدة لفكرة الشركات الأهلية وإيمانه الهلامي بأنها ستكون طوق النجاة للشباب التونسي الذي يعاني من البطالة المزمنة
غير معروف ما إذا كان الرئيس التونسي قيس سعيّد قد استجلب فكرة الشركات الأهلية من التجربة الاستعمارية الفرنسية، وهو المولع بفترة احتلال تونس وما رافقها من كتاباتٍ صحافيةٍ ونقاشاتٍ سياسية، أو من تجارب إسبانيا وعُمان والبرازيل، وهي تجاربُ أشار إليها الباحث الاقتصادي التونسي، رضا الشكندالي، من دون تعمّق وتفصيل، مكتفيا بالقول "في بعض الأحياء الإسبانية ظهرت الشركات الأهلية في البداية في القرن التاسع عشر كهبّة من طرف المتساكنين والعاملين في شركات أعلنت إفلاسها قصد النهوض بها مرّة أخرى، وإنقاذ عمّالها من البطالة فرفعوا بمساهماتهم رأس مال هذه الشركات وأصبحوا أعضاء في الإدارة والتسيير. وفي عُمان فإن الشركات الأهلية تكتسي الصبغة العائلية أو القبلية وذات امتيازات خاصة متأتية من مكانتها في المشهد السياسي وهذه الامتيازات لا تمتلكها الشركات الأخرى، أما في البرازيل فيتعلّق الأمر بتجربة محدودة في الأحياء البرازيلية الفقيرة دون أن تتوفر دراسات عن مدى نجاح التجربة أو فشلها".
ولكن المعلوم حماسة الرئيس التونسي الشديدة لفكرة الشركات الأهلية وإيمانه الهلامي بأن هذه الشركات ستكون طوق النجاة للشباب التونسي الذي يعاني من البطالة المزمنة، وهي الحلّ لديه لمعضلة الفقر في تونس، وسبيلها للنهوض الاقتصادي وتحقيق التنمية والرخاء. وعلاوة على ذلك كله، الشركات الأهلية ركن أساسي في مشروع البناء القاعدي الذي بشّر به الرئيس وينفّذه بحذافيره منذ استفراده بالحكم يوم 25 يوليو/ تموز 2021.
لم يشر الرئيس التونسي إلى الشركات الأهلية في دستوره المنشور بالرائد الرسمي يوم 18 أغسطس/ آب 2022، على الرغم من أن هذا نصّ مؤسس لجمهوريته الجديدة، ضمّنه رؤيته للحكم والسياسة والاقتصاد والمجتمع. وقد يعود التغافل عن ذكر الشركات الأهلية إلى إفراد هذه الشركات بمرسوم خاص قبل أربعة أشهر من إقرار الدستور الجديد بواسطة الاستفتاء، هو المرسوم عدد 15 لسنة 2022 الذي يتضمّن 97 فصلا تتوزّع على ثمانية أبواب، ويحتوي مادة دسمة من الإجراءات والشروط التأسيسية والعناصر الزجرية والجوانب القانونية الشكلية والمضمونية.
عرّف المرسوم، في فصله الثاني، الشركات الأهلية بـ "كلّ شخص معنوي تحدثه مجموعة من أهالي الجهة يكون الباعث على تأسيسها تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات من خلال ممارسة جماعية لنشاط اقتصادي انطلاقا من المنطقة الترابية المستقرّين بها". ورسم لها الفصل الثالث هدف "تحقيق التنمية الجهوية وأساسا بالمعتمديات وفقا للإرادة الجماعية للأهالي وتماشيا مع حاجيات مناطقهم وخصوصياتهم". وحدّد الفصل الرابع مجال نشاطها "تمارس الشركات الأهلية نشاطا اقتصاديا انطلاقا من الجهة الترابية المنتصبة بها"، ومكّنها الفصل الثالث في نقطته الثالثة من "التصرّف في الأراضي الاشتراكية (أراضي القبائل والعروش الجماعية) مع مراعاة التشريع الجاري به العمل بخصوص الملكية العقارية بناء على قرار مجلس التصرف".
منع الفصل عدد 9 من المرسوم على الشركات الأهلية ممارسة أي نشاط سياسي
يشترط الفصل 6 من المرسوم "أولوية الإنسان وقيمة العمل الجماعي على الربح الفردي"، فـ"لا يجوز للمشارك أن يكون له أكثر من سهم واحد"، و"الاعتماد على صوت واحد لكلّ عضو أيا كانت قيمة مساهمته في رأس المال عند اتخاذ القرار". ويلزم المهتمين بهذا الصنف من الشركات في فصله عدد 13 بأن "تتكوّن الشركات الأهلية من أشخاص طبيعيين لا يقلّ عددهم عن 50 شخصا وتتوفّر فيهم صفة الناخب في الانتخابات البلدية، ويمكن الجمع بين صفة المشارك في الشركات الأهلية وصفة الأجير"، وهو ما يقلّص من حظوظ العاطلين عن العمل لفائدة الأجراء، و"أن يكون موضوع الشركات الأهلية مطابقا للقانون والنظام العام والأخلاق الحميدة" وفق نصّ الفصل 8، إلا أن المرسوم نفسه يناقض ذلك الشرط الأخلاقي في الفقرة الثانية من الفصل 23، وجاء فيه "تنتهي عضوية كل مشارك بالوفاة أو بالإقصاء أو بالاستقالة دون إرجاع ما سبق دفعه"، وهو ما يعدّ تحيلا على ما ضمنته الشرائع البشرية والسماوية والمقصود بذلك الحق في الميراث أو استرجاع الحقوق.
منع الفصل عدد 9 من المرسوم على الشركات الأهلية ممارسة أي نشاط سياسي أو الانخراط في مسارات سياسية أو تمويلها، لكن قراءة أولية في الخريطة البشرية للشركات الأهلية التي وقع بعثها تثبت أن الفضل في تأسيس هذه الشركات يعود إلى تنسيقيات سعيّد وأعضاء حملته الانتخابية ومفسّريه، وأن هذه الشركات ستكون الذراع الاقتصادي والمالي لتلك التنسيقيّات والتجسيد الفعلي للبناء القاعدي الاقتصادي، فقد أشار المقال المنشور في موقع المفكرة القانونية يوم 6 يونيو/ حزيران 2023 بعنوان "الشركات الأهلية أداة لصناعة الأوهام في الاقتصاد والسياسة" إلى أن "أغلب الشركات التي تمّ تأسيسها كانت تحت إشراف المفسّرين وبحرص شخصي منهم في جهاتهم. وهذه هي الحال في جرجيس (الجنوب الشرقي) على سبيل المثال حيث أشرف أحمد شفطر (كبير المفسّرين حسب تسمية وسائل الاعلام التونسية) على الشركات الموجودة بالحضور الدائم في اجتماعات التحضير والتأسيس المختلفة، كما يتأكّد ذلك من خلال متابعة صفحته الشخصية وصفحات الشركات".
ثماني ولايات من بين 24 لم تعرف ظهور شركات أهلية بعد
وفي السياق، أشرف قيس سعيّد على بعث شركة أهلية بمسقط رأسه مدينة بني خيار بولاية نابل يوم 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، من دون أن يقدّم إضافة تذكر لما ورد في المرسوم عدد 15 سوى التمجيد والتبشير بالأرباح التي ستحقّقها الشركات الأهلية التي يمكن أن تنشأ في كل مجالات التنمية والثروة التي ستخلقها. لقد أعطى المرسوم في فصليه عدد 64 و67 مهمة الإشراف على الشركات الأهلية المحلية للوالي، وعلى نظيراتها الجهوية للوزير بالمكلف بالاقتصاد. ويكشف هذا الخيار وجها آخر من وجوه تسييس الشركات الأهلية وتحزيبها بطريقة غير مباشرة، فالوالي علاوة على أنه ينحدر من إحدى التنسيقيات، هو ممثل رئيس الجمهورية والمدافع عن توجهاته جهويا ومحليا ووزير الاقتصاد هو عضو حكومته والمسؤول عن تنفيذ سياساته في المجال الاقتصادي. ويظهر فقدان هذه الشركات أي استقلالية أو سلطة ذاتية لمؤسّسيها. ويضاف إلى ذلك كله، من دون أن يتحدّث عنه المرسوم، دور الدعاية الأيديولوجية ومتابعة مدى تقدّم إنجاز الشركات الأهلية الذي يقوم به وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي، وهو من الأوفياء المقرّبين للرئيس، حتى إنه خصّ هذه الشركات بمكلف بمهمة بديوان وزارته، وأشرف على عدّة اجتماعات في الغرض، وكان جديدها أخيرا الاجتماع الخاص بملف الشركات الأهلية المنعقد يوم 22 يونيو/ حزيران 2022 في مقرّ وزارة الشؤون الاجتماعية، وحضره بالإضافة إلى وزير الشؤون الاجتماعية وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري ووزير أملاك الدولة والشؤون العقارية ومدير ديوان وزير التكوين والتشغيل والمدير العام للبنك التونسي للتضامن وممثل عن وزارة الاقتصاد، بهدف النظر في آليات تفعيل الشركات الأهلية وطرق تذليل الصعوبات التي تواجهها بحسب ما جاء في بلاغ خاص لوزارة الشؤون الاجتماعية. ويستشف من هذا البلاغ تعثّر نشأة الشركات الأهلية رغم الامتيازات التي خصّت بها الدولة مثل الإعفاء الضريبي عشر سنوات، والإغراء بتمكين باعثي هذه الشركات من أموال الصلح الجزائي التي قدّرها الرئيس قيس سعيّد بـ 13.5 مليار دينار ووعد التونسيين بجنات النعيم بمجرّد استرجاعها، في حين لم يسترجع منها سوى خمسة ملايين دينار قبل بضعة أشهر من نهاية السنة الثانية والأخيرة المحدّدة لعمل اللجنة المعنية لاسترجاع الأموال المنهوبة. وبالإضافة إلى ذلك، وُضع على ذمّة الشركات الأهلية مبلغ قدره 20 مليون دينار ضمن قانون المالية وميزانية الدولة لسنة 2023، هذا من دون نسيان الأراضي الاشتراكية وأراضي الدولة، المقدّرة بمئات آلاف الهكتارات التي تستخدمها حكومة سعيّد طُعما لاصطياد مزيد من المواطنين من أجل بعث شركات أهلية.
ومع ذلك، لا تزال أرقام الشركات التي تم بعثها مخجلةً، وتخضع لتكتّم شديد من السلطات المعنية، وربما يعود ذلك التكتّم إلى ضعفها وعدم إقبال الناس على الفكرة بسبب عدم جدواها المادية وانعدام مردودها الاقتصادي وغموض مستقبلها وارتباطها في الأذهان بتجربة التعاضد التي عرفتها تونس في ستينيات القرن الماضي وانتهت إلى الفشل. نشر موقع نواة عدد الشركات الأهلية في تونس قبل سنة من نهاية عهدة الرئيس، وهذا الرقم في حدود 58 شركة إلى حدود يوم 1 يونيو/ حزيران 2023، وحسب الموقع نفسه، فإن ثماني ولايات (محافظات) من بين 24 لم تعرف ظهور شركات أهلية بعد، أما رقم 900 شركة في طور الإنشاء الذي تحدّث عنه الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 20 يونيو/ حزيران 2023 على هامش زيارته مقرّ لجنة الصلح الجزائي، فيندرج في إطار اختلاط الأمور على الرئيس الذي أقرّ بنفسه في أكثر من مناسبة أنه لا يفقه لعبة الأرقام، وخصوصا كبيرة الحجم، مثل المليون والمليار والبليون.
بعث التعاضديات كان جزءا من برنامج الاتحاد العام التونسي للشغل لسنة 1954
من العسير المقارنة بين تجربة التعاضد في تونس ونظيرتها للشركات الأهلية، فبعث التعاضديات كان جزءا لا يتجزأ من برنامج الاتحاد العام التونسي للشغل لسنة 1954، وقد عرف طريقه إلى الممارسة مع دخول الأمين العام الأسبق للمنظمة النقابية أحمد بن صالح (1954- 1956) إلى حكومة الحبيب بورقيبة بداية من سنة 1957 وزيرا للصحة، ثم إشرافه على وزارة المالية (1961-1969) واقتناص اللحظة لتطبيق البرنامج النقابي. وفي هذه الفترة ستعرف تونس التجربة الاشتراكية وعنوانها الرئيسي هو التعاضد، وسيقع توظيف مئات آلاف الهكتارات من الأراضي المسترجعة حديثا من المعمّرين الفرنسيين ومن حلّ الأوقاف. هذا علاوة على أن الدولة، مع التجربة التعاضدية، أصبحت المستثمر الرئيسي، ليس في مجال القطاعات الإستراتيجية كالصحة والتعليم والفلاحة فقط، وإنما في كل القطاعات المنتجة، ما أدّى إلى تأسيس المنشآت الكبرى التي لا تزال تشتغل، على غرار مركب عجين الحلفاء بالقصرين ومصنع السكر بباجة ومصنع الفولاذ ببنزرت. ورغم انتهاء تجربة التعاضد برمتها إلى الفشل، لا يعود فشلها لا إلى هوان الفكرة وضعفها، كما هو شأن الشركات الأهلية ولا تاريخيّتها، وإنما السبب فيه صراع الأجنحة في حكومة بورقيبة والنزاع على السلطة آنذاك، وخصوصا الدور الذي لعبته زوجة الرئيس وسيلة بن عمار صحبة الباجي قائد السبسي، وزير الداخلية 1965-1969، في إطاحة الوزير القوي أحمد بن صالح وإنهاء تجربة التعاضد التي يقودها.
أما المقارنة بين فكرة الشركات الأهلية ومرسومها المنظّم من ناحية والقانون عدد 30 لسنة 2020 من ناحية أخرى المتعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني، فإن في الأمر حيفا وظلما، لأن هذا القانون جاء بمبادرةٍ تشريعيةٍ من الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو ثمرة نقاش واسع فكري وسياسي ومدني وإعلامي، شاركت فيه كل القوى الحيّة، وتبنّته الحكومة التونسية برئاسة الياس الفخفاخ، ونافح عنه وزير التشغيل والتكوين في تلك الحكومة فتحي بلحاج، وانتهى قانونا تم عرضه على مجلس نواب الشعب وإقراره بأغلبية 131 نائبا من مختلف الكتل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومن دون معارضة، قبل أن يختمه رئيس الجمهورية ويتم نشره بالرائد الرسمي التونسي. ومع ذلك، صار قانونا مهجورا تعمّدت حكومتا هشام المشيشي ونجلاء بودن عدم نشر نصوصه الترتيبية، بينما كان مرسوم الشركات الأهلية أقرب إلى رغبة ذاتية من الرئيس أراد أن يثبت من خلاله امتلاكه تصوّرا اقتصاديا جديدا ورؤية لحل معضلة البطالة الشبابية، فكانت النتيجة تعطيل أحد أهم النصوص التشريعية التونسية وأكثرها إجماعا وتعبيرا عن الدولة الاجتماعية والمدنية، ووأدها قبل أن تدخل التجربة لحساب فكرةٍ لا تستفيد منها سوى القبيلة وتعود بالمجتمع إلى أطوار الروابط الدموية والعصبيات العشائرية العتيقة.
لم تستطع الشركات الأهلية أن تتحوّل إلى مشروع واقعي قادر على تشكيل منوال تنموي جديد يأخذ مكان المنوال السائد منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين
عرفت فكرة الشركات الأهلية ومرسومها المؤسّس تحفّظا شديدا ورفضا قاطعا من كل تنظيمات وقوى ونخب المجتمعين المدني والسياسي، فقد وصفها الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، بأنها "أتعس من تجربة التعاضد الاشتراكية التي كانت سائدة خلال ستينيات القرن الماضي"، و"أنها لا تتوافق مع مقاربة القيادة النقابية لمنوال الاقتصاد الاجتماعي التضامني". وقال عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية معز السلامي "إن الشركات الأهلية تهدد ديمومة قطاع النقل العمومي غير المنتظم". واعتبر الأمين العام لحزب آفاق تونس، فاضل عبد الكافي، أن "الشركات الأهلية هي مشروع غير قابل للتنفيذ والأولى الالتفات إلى الشركات الصغرى ودعمها بعد إفلاس الآلاف منها". وعلّق الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، على إيقاف العمل بالقانون عدد 38 لمن طالت بطالتهم من أصحاب الشهادات العليا واستبداله بفكرة الشركات الأهلية، قائلا "الشعارات تتهاوى والوعود تتبخر بمجرّد اصطدامها بالواقع". واعتبر أمين عام حزب الراية الوطنية والمحامي العروبي، مبروك كرشيد، أن "الشركات الأهلية هي عملية تحايل كبرى وتنبؤ بخطر نشوب نزاعات بين العروش". ووصفها القيادي في حركة النهضة، العجمي الوريمي، بأنها "مشروع عفا عليه الدهر وثبت أنه فاشل". وقالت رئيسة الحزب الدستوري الحرّ، عبير موسي، "إن الشركات الأهلية هي تدمير لمؤسسات الدولة". وصرّح زهير المغزاوي الأمين العام لحركة الشعب، الحزب الداعم لقيس سعيّد ومساره، أن حركته أصبحت قلقة من مسار 25 جويلية، مضيفا "نريد لمسار 25 جويلية أن يحقق أهدافه وهذه الأهداف ليست في الشركات الأهلية والبناء القاعدي".
يتبيّن من عرض تجربة الشركات الأهلية تاريخيا، واستعراض الآراء بشأنها، أن المسألة تتعلق بيوتوبيا سياسية يرى فيها الرئيس سعيّد طوق النجاة، مع أن علامات فشلها كانت تسكن مرسومها المؤسّس والمنظم لها، وعجزها عن الولادة الطبيعية قد لاح في الأفق مع تأسيس مجموعة صغيرة من الشركات الأهلية لتبقى مجرّد أرقامٍ في سجل المؤسسات الوطنية من دون إنتاج حقيقي، ولم تستطع أن تتحوّل إلى مشروع واقعي قادر على تشكيل منوال تنموي جديد يأخذ مكان المنوال السائد منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين الذي أنتج عشرات الأزمات والانتفاضات الاجتماعية، تحوّلت إحداها إلى ثورةٍ غيّرت نظام الحكم، وأرست تجربة ديمقراطية فتيّة على علّاتها ومكامن ضعفها، قبل انتكاستها يوم 25 يوليو/ تموز 2021.