كاتب سوري كبير... أديب النحوي
في موقع ضفّة ثالثة، كتب الروائي السوري فيصل خرتش مقالةً عنوانها "باسم الأمة" (17/7/2024)، تناول فيها جوانب من سيرة الأديب السوري الراحل أديب النحوي (1998). المُخرِجُ الفنّي للموقع وضع صورتي على غلاف المقالة عن طريق الخطأ. هذا الأمر أسعدني، وأعاد إليّ ذكرى أديب النحوي، الذي أَعتبرُه بالغَ الأهمية، وواحداً من الأدباء الذين تعلّمتُ منهم فنون الكتابة الأدبية الساخرة، النابعة من حياة الشعب.
بدأت علاقتي بأديب النحوي حينما عثرت في أواسط التسعينيّات على مجموعة قصصية له، عنوانها "مقصد العاصي"، وفيها قصّة أغرتني بتحويلها إلى فيلم تلفزيوني، عنوانها "مجلس الرحمة"، يصوّر فيها مأساة الإنسان الفقير، والكادح، والمُعيل، بطريقة فريدة. دأبت مدارس الستينيّات في سورية على عقد اجتماع للمعلّمين والمدير في آخر السنة الدراسيّة، يساعدون فيه بعض الطلاب الكسالى، بزيادة درجة أو درجتَين، لكي ينجحوا إلى الصفّ التالي. وهنا، يُضيء الكاتبُ مفارقة مدهشة، فالأخ حمدان فسفسة (أبو بكري) عنده ولد ذكي جدّاً، ومتفوّق جدّاً، ومع ذلك يريد أن يُخرجه من المدرسة ليعمل معه في "قَمّيل الحَمَّام"، ليكون له عوناً في إعالة أسرته الكبيرة. مُعلّم المدرسة البعثي، المُتحمِّس، يتدخّل لمنع هذه (الجريمة)، ويصطدم مع أبي بكري، ويقول له: "انتهازي". يُقرّر أبو بكري أن يشكوه لإدارة المدرسة، وعندما يصل، يكون مجلس الرحمة مُنعقِداً بالمصادفة، فيدخل، ويُخبر المُعلّمين بما جرى، وأنّ زميلهم البعثي قال له "أنتَ هازي"، ويطلب منهم أن يرحموا ابنه المتفوّق بعكس ما يرحمون الطلاب الكسالى، أيّ أن يُنقصوا له درجات فيرسب، ويخرج من المدرسة، ويعاون والده في إعالة الأسرة.
خلال تصوير التمثيلية، في إحدى حارات حلب القديمة، حصلتُ من الفنّانة إيمان غوري على رقم هاتف الكاتب أديب النحوي في دمشق، واتّصلت به، واعتذرت له لأنّي اقتبست نصّه القصصي من دون استئذانه، وكانت المفاجأة أنّني وجدت نفسي مع رجل شفّاف، وطيب مثل طفل، وعندما أخبرته بأنّني حصلتُ على مجموعته القصصية الأخرى "حكايا للحزن"، التي اقترحها عليّ المخرج هيثم حقّي، وأنوي تحويل قصته "القشر واللب" إلى فيلم تلفزيوني، أبدى سروره، وموافقته من دون قيد أو شرط. وهنا، نصل إلى حكاية أخرى، أنّني كتبت الفيلم ووضعت له عنوان "العاشق"، واقتناه التلفزيون السوري، وأَوكَل إلى الفنان حسن عويتي إخراجه، وأثناء مناقشة ميزانيته في لجنة الدراما، كانت التسعيرة المُعتمَدة 40 ألف ليرة للنصّ، منها 32 ألفاً لكاتب السيناريو، وثمانية آلاف للأديب مُبدع القصّة، وإذا بالمدير العام آنذاك، الأديب عبد النبي حجازي، يُقرّر دفع مبلغ 75 ألف ليرة لأديب النحوي استثنائياً، لأنّه ينظر إليه باحترام وتقدير. وتتمّة القصّة أنّ الفيلم أُرسل بعد إنجازه للمشاركة في مهرجان القاهرة للتلفزيون في تلك السنة، وحصل على الجائزة الذهبية. وهنا، لا بدّ من الاعتراف بأنّ حرارة نصّ النحوي، انعكست في عملنا أنا والمُخرِج والمُمثّلين، فتحقّق ذلك النجاح.
قرأت لأديب النحوي روايةً تناول فيها موضوعاً، أعتقدُ أنّه لم يخطر ببال كاتب آخر، وهو أنّ هزيمة يونيو/حزيران 1967 أسفرت عن وجود عدد كبير من الجنود السوريين المفقودين، لم يتلقَّ أهلهم خبراً بأنّهم استشهدوا في المعارك، أو أَسَرَتهم إسرائيل، فأين هم إذن؟ والسؤال الأكثر أهمّية: ماذا فعل أهاليهم من أجل العثور عليهم، أو معرفة مصيرهم؟ وما هي الحكايات والأحداث التي اعترضتهم خلال رحلة البحث المضنية تلك؟
كان أديب النحوي بعثياً، وقد صَنّف الُنقَّاد أدبه في خانة الواقعية الاشتراكية، وقد اشتُهِرت هذه المدرسة الأدبية بإنتاج أعمال ضعيفة ومستهجنة، وإنّني أميل إلى الاعتقاد بأنّ سرّ تألّق أديب النحوي يكمن في مقدرته الاستثنائية على تصوير البيئة الشعبية الحلبية، والحفر في أعماق الشخصيات التي يتناولها، واللغة البسيطة، الحارَّة، التي كان يصوغ قصصه فيها.