العالقون في الثورات المضادّة

10 ديسمبر 2024
+ الخط -

ثمّة فارقٌ بين الاعتراف بالهزيمة، بوصفها مرحلة في الصراع، والتسليم بأنها قدرٌ محتوم لا فكاك منه. في وقت ما، كان من الضروري أن نعترف وبوضوح أننا مهزومون، وأن هزيمتنا نتيجة أفكارنا وممارساتنا، وليس ظلم الحياة، وفق معالجات وردّات قول وفعل مأساوية، مقدّمات تفضي إلى نتائج، ولا يعني قسوتها، أننا لا نستحقّها. كتب ذلك كاتب هذه السطور في حينه، وكتبه غيره، وتنوّعت المقاربات، وذهب أعلاها صوتاً إلى أن الطرق كلّها كانت تؤدّي إلى الهزيمة، وإلى المعتقلات، وإلى التصفيات الجسدية، والى الإخفاءات القسرية، وإلى المنافي الإجبارية، وأنه لم يكن من سبيل للانتصار على الثورات المضادّة لأن الأنظمة أقوى، وتحالفاتها أقوى، والقوى العظمى التي تدعمها أقوى، فالهزيمة هي نهاية التاريخ. والأكثر جدوى أن نستسلم للعدمية، أو للأنظمة الاستبدادية.
تظهر هذه الرؤية في قراءات كثيرين ممّن شاركوا في أدوار فعّالة في ثورة يناير (2011) للمشهد السوري الراهن، فهم منزعجون أشدّ الانزعاج ممّا يحدث في سورية، وموقنون أشدّ اليقين (!) أن رحيل بشّار الأسد على يد الفصائل المسلحة السورية بداية النهاية، ونذير الحرب الأهلية (القائمة بالفعل)، وتقسيم سورية (القائم بالفعل)، والحكم الطائفي (الحاكم بالفعل)، والسجون والمعتقلات والتشريد والقتل لآلاف وملايين السوريين، وقل ما شئتَ عن توقّعات الرفاق التي هي واقع سورية، وليس بالضرورة مستقبلها، ولا يعني نجاح الثورة السورية سوى تجاوز هذا المرار، ولا يعني فشلها سوى استمراره، تماماً كما أنشأه النظام الأسدي المليشاوي الطائفي، أكثر من الجولاني ورفاقه أو أخفّ وطأةً، وفق شروط جديدة. فليس لدى السوريين ما يخسرونه.
ثمّة بديهيات غائبة عن القراءة المصرية السوداوية، أهمها أن الفشل في مصر وغيرها لم يكن قدراً، ولن يكون، إنّما نتيجة. نتيجة رداءة في السياسات، ورداءة في الممارسات، وغياب كامل في لحظة الحضور، وحضور كامل في الغياب، ما يعني هزيمةً مستحقَّة. تخبرنا تجارب التحوّل الديمقراطي أن النخب هي من تنجز كلّ شيء، وأن "المنجز" مرهون بقدرة النخب الواقعية والعاقلة على "التفاهم". وما حدث في مصر (وما زال يحدث)، هو صورة بالحجم الطبيعي للنخب المصرية. قدراتها وإراداتها ووعيها وتأثيرها، تختلف درجات المسؤولية، وتحمل التفاصيل كثيراً من وجهات النظر، لكن في الأخير تقع المسؤولية على من تقدَّم لحملها، فلم يحملها، في الأحزاب السياسية، وفي الجماعات الدينية، وفي المؤسّسات الإعلامية، وطبعاً في مؤسّسات الدولة. فلماذا تفترض النخب المصرية أن النخب السورية صورةٌ منها، وأن فشل المصريين هو قدر السوريين، بل قدرهم اليقيني الذي لا فكاك منه، إلى درجة تجريم سعادة السوريين بما أنجزوه؟
وبرحيل المجرم بشّار الأسد، وبإطلاق عشرات الآلاف من المعتقلين، وبفتح الطريق أمام عودة ملايين اللاجئين، ثمّ تجاوز التجريم إلى توعّد السوريين بأن القادم أسوأ وأسود وأغبر على دماغهم ودماغ أهاليهم ومن يباركون لهم، ممّن لم يكونوا معنا طوال 14 عاماً ليتأكّدوا بأنفسهم، كما تأكّدنا، أنه لا أحد ينتصر هنا (ما هذا؟).
يبحث العالقون في وعي الثورات المضادّة (ممن لا أشكّك في نيّاتهم) عن ثورة تفصيل، ثورة في مقاس تخيّلاتنا التي كانت أحد أسباب هزيمتنا، ثورة بلا إسلاميين، أي بلا أغلبية، وما فوز محمد مرسي بديلاً من اكتساح حازم أبو إسماعيل عنا ببعيد، ثورة بلا دعم إقليمي أو دولي يطعن في نقائها وطهرانيتها، ثورة بلا سياسة، في إعادة تدوير لنفايات التفرقة بين الثوري والسياسي، يبحث الرفاق عن انتصار قائم على أسباب الهزيمة كلّها، ثم يتوعّدون من لا يشاركهم البحث بأنه مهزوم لا محالة، أو ربّما "إرهابي"، وفق رواية الأجهزة الأمنية "الوطنية".
يمثل رحيل بشّار الأسد إنعاشاً لذاكرة الثورات العربية، التي لا تعني هزيمتها نهايتها، فما حدث أكبر من إمكانية تجاوزه، مهما حاولت الأنظمة الاستبدادية أمنياً وإعلامياً، فإذا وعت النخب السورية دروس الهزيمة في تونس ومصر، وأحسنت إدارة مرحلة ما بعد بشّار، فهي البداية الجديدة لنا جميعاً، ولذلك فهي تستحقّ الرهان.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان