المثقّف "الزمبلك"

17 ديسمبر 2024

(كمالا إسحق)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

هذه قصة واقعية... دخل صديق في أحد الفصائل السياسية في مصر نقاشاتٍ مع زملائه حول إمكانية العمل المشترك مع الخصوم الأيديولوجيين. فشل في إقناعهم، فقرّر أن يلعب. وفي رحلة صيفية طلب منهم أن ينقسموا بين فريقَين، الأول يمثّل نفسه، والآخر يمثّل أفكار الخصوم ويتمثّلهم، ويدافع عنهم، وفق منطقهم، والهدف في الأخير هو الضحك. اختار صديقي صفّ الخصوم، وبدأ في الهجوم على أصدقائه من موقع "الآخر"... لعب... تمثيل... "كده وكده"، فإذا باللعبة تنقلب "خناقة"، وإذا بأصدقائه يتهمونه في أفكاره وفي انحيازاته، ويرمونه بالاندساس عليهم، وبأنه من "الآخرين"، الذين هم بالضرورة "شياطين".
"بصّ يا سيدي"، إذا لم تكن تعرف معنى "الزمبلك" فالحكاية سهلة، لأنها لعبة موجودة في أيّ بلد، وفي أيّ ثقافة، ومن المحتمل أنك لعبت بها يوماً، ولكن باسم مختلف، وهي تعتمد في الأساس على قطعة معدنية اسمها "الزنبرك"، تقوم بتخزين الطاقة الحركية وإطلاقها عند الحاجة، وفي اللعبة يضغط أحدهم الزرّ، فإذا بـ"الزمبلك" يدور حول نفسه، أو فوق نفسه، أو تحت نفسه، حسب التصميم.
أعد قراءة الفقرة السابقة، وركّز في تصميم "الزمبلك"، وفي وظيفته، لأنهما الموضوع كلّه. تخزين الطاقة، ثم إطلاقها بمُجرَّد أن يضغط أحدُهم زرّ التشغيل. وهذا بالضبط ما حدث مع صديقي، ضحيّة لُعبة تمثّل "الآخر" وتفهمه، فقد اجتهد أصحاب مصنع اللعب أن يجعلوا من أتباع كلّ فصيل كائنات (لا مؤاخذة) زنبركية، تعمل بالزرّ، وتتحرّك من دون إرادة منها، إلى أن تُفرغ الطاقة المُخزَّنة، فيُعاد تدوير زرّ الشحن اليدوي من فتحة أسفل اللعبة، لكنّ المدهش أن تتجاوز اللعبة أطفال الفكرة إلى بالغيها، فيتحوّل المثقّف إلى "زمبلك" يُخزّن طاقات الانفعالات والخصومات والكراهيات إلى أن يضغط أحدُهم زرّ تشغيله، فينطلق رغماً عنه، ويُصدر أصواتاً وحركاتٍ لاإراديةٍ، وإن تصوّر صاحبنا أنه حاضر وفاعل ومسيطر (ولا يبرئ كاتب هذه السطور نفسه).
أمّا أزرار التشغيل، فهي مختلفة الأشكال والأحجام والخامات، لكنّ المشترك بينها أنّها كلّها كفيلة بتحريك طاقة الفعل الحقيقي لدى من يبحث في أمرها، ويقلّبها بإرادته ذات اليمين وذات الشمال. من هنا كان تحويلها مُجرَّد زرّ تشغيل "زمبلكاً" إبطالاً ذكياً وشريراً لمفعولها. خذ مثلاً الإسلام، الاشتراكية، الخلافة، الديمقراطية، العلمانية، جمال عبد الناصر، سيّد قطب، الشعراوي، أسامة بن لادن، أبو محمد الجولاني، نصر أبو زيد، فرج فودة، عادل إمام، محمد صلاح... خذ الأديان، والأيديولوجيات، والمفاهيم الكُبرى، والشخصيات المحورية التي من شأنها تحريك التاريخ، كلّها تحوّلت أزراراً وتحوّل التابعون إلى جمع "زمبلك"، فإذا انضغط الزر فلا إمكانية لتغيير اللعبة، ولا إمكانية لتطويرها، ولا إمكانية لتوقيفها، ولا يعني طرافة "زمبلك" عن آخر، أو حداثة "زمبلك" عن آخر، أو تفوّق "زمبلك" على آخر، أيّ اختلاف، فالميكانزم واحد، والنتيجة واحدة، وإن اختلفت الأشكال والأصوات والحركات.
يتحوّل المثقّف "زمبلكاً" حين يتحوّل عقله قطعة زنبرك، وتتحوّل العلامات في ذهنه مُجرَّد أزرار، فلا وعيَ لينتج قراءة، ولا فهمَ، أو محاولةً للفهم، ليجعلها نقديةً، ولا إدراك للسياقات والفروقات ليجعلها مختلفةً عمّا سبقها، ولا استشراف للمآلات ليجعلها واقعيةً، ولا إرادةَ أو ضمير ليسمحا لصاحب القراءة بالتراجع حال الاندفاع، والتصحيح حال الخطأ، والاعتراف الشجاع بالنقصان وبالفشل وبالعجز، وربمّا بتفوق "الآخر" البشري، وليس الشيطان.
قد تبدو استعارة "الزمبلك" ساخرةً، لكنّها ليست كذلك، إنّما هي (مع الأسف!) الأقرب إلى أحوالنا، أحوال المثقّفين المصريين والعرب، مع كلّ حادثِ وحديث، في السياسة وفي الدين وفي الفنّ وفي الرياضة وفي شؤون الاجتماع كافّة. لا جديد، فالأسئلة هي هي، وإن اختلفت أساليب الطرح، والإجابات هي هي، وإن اختلفت أساليب الجمع والقصّ واللصق والتقميش والترقيش. تماماً كما تختلف أداءات "زمبلك" عن آخر، حسب نوعه وتصميمه. من هنا، يأتي الملل. ومن هنا، يترسّخ اليأس، والعدمية، والـ"مفيش فايدة". ومن هنا يمرّ الطغاة والمستبدّون، فيركبون ويتسيّدون.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان