العام الثاني من الموت في السودان
تدخل حرب السودان عامها الثاني، هذا الأسبوع، بعملياتٍ عسكريةٍ متفرّقة، وبمزيد من معاناة المدنيين في بلادٍ يأكلها الحريق من جميع أطرافها. ما ادّعاه طرفا الحرب، في أيامها الأولى، أنّها ستكون معركة سريعة يقضي فيها الجيش على قوات الدعم السريع المُتمرّدة أو تأسر "الدعم السريع" قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وتحاكمه خلال ساعات، ظهرت أنّها أمنيات لا يدعمها شيء في الواقع.
مثل كلّ حرب أهلية مزّقت بلداناً، ومثل حروب السودان السابقة منذ 1955 وحتى 2005 في جنوبي السودان، وفي إقليم دارفور منذ 2003، تبدو الرصاصة الأولى هيّنة، والنهاية قريبة، لكن الحرب ما إن تبدأ حتى تصبح كل الأحلام هباء. وها هي حرب الساعات السبع، على أعلى تقدير، بحسب ما كان يقال قبل الحرب وفي بدايتها، تدخل عامها الثاني، وقد لا يكون الأخير. رغم ما يظهر من تحوّل في سياسة الولايات المتحدة في التعامل مع الملف السوداني عقب إقالة سفيرها في الخرطوم جون غودفري، المتخصّص في شؤون الإرهاب، كانت السياسة الأميركية قد شهدت سلسلة من الفشل في السودان والإقليم والعالم في فترة قصيرة. عالمياً، تورّطت الولايات المتّحدة وأوروبا في الحرب الروسية الأوكرانية، كما انفجرت الأوضاع في إثيوبيا، مع تأزّم الشرق الأوسط في فلسطين، والتفاوض النووي مع إيران. في الفترة ذاتها تقريباً، وقع انقلاب 25 أكتوبر (2021) بعد ساعات من اجتماع المُكوّن العسكري السوداني الحاكم مع المبعوث الأميركي، الذي حذّر العسكريين من الانقلاب، وتلقّى منهم تطميناتٍ لم تستمر حتى مغادرته، فتضاربت الشهادات بين القول إنّ طائرة المبعوث الأميركي غادرت قبل ساعات من الانقلاب والقول إنّ المبعوث سافر بعد وقوع الانقلاب المفاجئ (!). لم يكن الفشل في السودان هو الفشل الوحيد للمبعوث الأميركي، جيفري فيلتمان، فبعد أيام اشتعل الصراع المسلّح في إثيوبيا التي زارها فيلتمان أيضاً، محاولاً تخفيف التوتر السياسي فيها. بالمثل، عاد السفير الأميركي في 2023 إلى الخرطوم مساء 14 إبريل/ نيسان، ساعات قبل اندلاع الحرب، فقضى أيّامه التالية تحت الحراسة، قبل أن تجليه حكومته مع موظفيها ومواطنيها بعد أسبوع. وكانت ليلة إجلاء موظّفي السفارة الأميركية في الخرطوم مماثلة ليوم تسليم الطيارين المصريين الأسرى لدى قوات الدعم السريع؛ من الأوقات النادرة التي التزم فيها طرفا الحرب بوقف إطلاق نار صارم، وهو ما فشلا في تكراره مع قوافل الصليب الأحمر والمعونات الإنسانية (!)
السياسة الأميركية، التي فشلت طوال العام الماضي في وقف الحرب، تحاول الضغط على الطرفين في جولة تفاوض جديدة قد تبدأ في الشهر المقبل (مايو/ أيار)، بعد دخول الإمارات ومصر في التفاوض السري الذي عُقد في المنامة. ورغم أنّ أخبار عملية التفاوض تلك لم تصدر بشكل رسمي، إلا أنّ إشارة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إليها في الأسبوع الماضي، أكّدت ما ذهبت إليه تسريبات كثيرة من وجود عملية سياسية قيد الإعداد تسعى إلى وقف إطلاق النار، وتفاوض لإقامة سلطة مدنية انتقالية. وهو ما يبدو غير متّفق عليه من الجيش السوداني ومؤيديه، فظهرت تصريحات الجنرالات متضاربة، ولم يسعد بها الرأي العام الداعم للحرب، لاسيما قطاع من الإسلاميين وغيرهم من مؤيدي الحلّ العسكري، فتعامل معها بوصفها شائعة. على الجانب الآخر، تُرحّب "الدعم السريع" بكلّ دعوة تفاوض، لكنها لا تشغل نفسها بها إلا من باب العلاقات العامة مع المجتمع الدولي. فتقبل دعوات التفاوض، وتتحدّث عن السلام ووقف إطلاق النار، بينما تجتاح القرى لتنهبها وتهجّر أهلها.
قد تحمل الأسابيع المقبلة اتفاقاً متعجّلاً لوقف إطلاق النار. وتبدأ عملية سياسية تستضيفها إحدى الدول العربية لتحديد شكل العملية الانتقالية المقبل، لكن هل يوقف ذلك الحرب؟ هل كلّ البنادق اليوم تحت قيادة واحدة تمتلك قرار وقف إطلاق النار؟ في تقدير كاتب هذه السطور أنّ الاتفاق المقبل سيكون أكثر هشاشة من كلّ الاتفاقيات السابقة، حتى مع حشد الدعم الدولي له. بل ربما ينهار فجأة بظهور لاعبين مسلّحين جدد في أرض المعركة التي أصبحت مفتوحة للمغامرين، وتُغري الطامعين.