العبودية في الخليج .. الاعتذار المؤجل
يكتنف الاختيارات العالمية، ومنها جائزة بوكر للرواية، الصراع على معيارية الانتخاب، فهناك بالفعل دوافع خاصة للرؤية الغربية، وبعض اختيارات الجوائز العالمية كومة من نصوص سوداء موغلة في الإحباط وشذوذ المشاعر والسلوك، يصبّها هذا الأديب الذي قد يمتلك شاعرية خاصة، لكنه يمارس تدوين النص في كتلة مأزومة نفسياً واجتماعياً، قد تكون مشاركتها في رف الرواية دفعة إحباط وتيه لعقول الشباب ووجدانهم، وقد يكون مصير هذا الروائي مأساويا. وفي هذه الحالة، أعتقد أن تحرير الموقف الفكري الأخلاقي مشروع لنقض الرواية.
وفي حالات أخرى، يقع الانتخاب على إبداع أدبي بالفعل، يصيغ ذاكرة حياة للمجتمع المحلي، يساعد في تعزيز مراجعة الذات والسلوك في المجتمع، وقد لا تفعل بتقدير بعضهم، لأنها لم تشتغل بما يجب أن يكون، ولكنها نص أدبي روائي يعرض لما كان في حياة الواقع، أو قاربه المخيال الاجتماعي. وهنا ننظر أيضاً إلى مشاعر البعد الأُسري للمجتمع وقلقه الخاص ونتفهمه، ونقول إن النقد الروائي يجب أن يُستثمر في ثقافة المجتمع، وفي المؤسسات ذات العلاقة لصناعة علاقة أفضل للأسرة الصغيرة التي تشكّل نواة المجتمع، بل مستقبل استقراراه ونهضته.
حضر الدين في رواية العُمانية جوخة الحارثي "سيّدات القمر" في عدة صور من مسرحها الحاشد، برز ذلك في استحضار خولة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في أحد مسانيد السنة النبوية، وهو مسند الربيع. كان الحديث هنا مضادّا للأفكار التي تروج في المجتمع، عبر الطقوس المتأثرة بالجاهلية الاجتماعية ضد المرأة، والتي تخالف هدي الإسلام في حقوقها الأصلية.
ما كان يمارس على أهلنا وآبائنا، من عبودية، كان مظلمة كبيرة، وتوحّشا شرسا لا أخلاق له، بل خيانة للإسلام ذاته
ويقودنا مسرح الرواية إلى ذلك التاريخ متواصل التأثير، وبالذات شخصية الزعيم الاجتماعي أو الوجيه الذي يكون شيخاً أو وجيهاً (متديّنا)، كالشيخ مسعود وهو يمثل غاية البطش والقسوة، إلى الدرجة التي يلفظ فيها ابن عزّان النفس الأخير لحمّى أصابته، وكان من الممكن أن يوجد له دواء في مشافي مسقط، لأن الشيخ مسعود لا يريد أن يمنح "الرنج روفر" ولو ليوم أو نهار لإنقاذ فلذة كبد عزّان وزوجته. ورغم قسوة سليمان التاجر، أفردت الرواية له موقفاً مهماً، في معنى الاحتساب الديني، حين قرّر فتح مستودعات الغذاء في موسم الفيضانات لإطعام الناس مجّاناً حتى نفدت خزائنه. رسمت الرواية أيضا تاريخ المواجهات السياسية الاجتماعية التي كان رحاها يدور في ظل الصراع بين مسقط والدعم الإنكليزي وبين الأئمة المتدينين، وذاكرة المحرومين في هامشها، وبصمات المنافي.
وربما أن استيقاظ عُمان على وحدة اجتماعية وصناعة وطن جامع اليوم، وتجاوز الماضي أهم خلاصات عهد النهضة الجديد الذي أشرق عليها، فالبقاء في دائرة الصراع الذي شارك فيه المستعمرون الراحلون عائقٌ كبير أمام نهضة الشعوب.
لقد كان أخطر ملف سعت "سيدات القمر" إلى بعثه بقوة، في إنجاز أدبي تاريخي للمنطقة، هو ملف العبودية في الخليج العربي. كانت البطلة الأخرى للرواية (العبدة) ظريفة، وابنها سنجور. لقد فجّرت جوخة الحارثي القصة المكبوتة، وطرحت بقوة واجب الاعتذار المؤجّل في الخليج العربي، ومنه عُمان. وربما كان من الظلم بمكان أن توصف الرواية في مصادر "ويكيبيديا" أنها تُظهر عُمان مركزا لتجارة الرقيق في ذلك الزمن، فهذا يختزل تاريخ عُمان المتعدّد. لكنه في الوقت نفسه يعيد مصارحة الذات الإنسانية، في عُمان وفي بقية الخليج العربي، بالحقيقة الصادمة، أن ما كان يمارس على أهلنا وآبائنا، الذين تمتدّ بيننا وفينا معهم شراكتهم الوطنية وانتماؤهم الاجتماعي، من عبودية، كان مظلمة كبيرة، وتوحّشا شرسا لا أخلاق له، بل خيانة للإسلام ذاته، وهي صفحاتٌ مؤلمة سوداء، يجب أن يُحرّر فيها اعتذار صريح.
الحالة المتأخرة في القرون الأخيرة في الخليج، فقد كانت جرائم حرب اختطفت أحرارا من دورهم، وكفرت بحقوقهم وبمنهج الإسلام
وقد لا حظت أن دولة قطر استبقت تنظيم كأس العالم، فأفردت لهذا الملف بيت ابن جلمود، وهو متحفٌ محلي في منطقة الدوحة القديمة (مشيرب)، يشرح آلام تلك العبودية ويسجّل رحلة إسقاطها. وهي واسعة الذاكرة المرّة في بقية مناطق الخليج العربي، وفي أقاليم السعودية، ولكن المشكلة أن تحرير هذه الموقف، واستعادة صرخات سنجور البلوشي، وغيره من الضحايا التي جلبت عبر سوق النخاسة البشع في تاريخ الخليج العربي، لم يحرّر صياغة الوعي فيه حتى اليوم. ولذلك كانت رواية جوخة الحارثي ثورة أخلاق مبدئية تعيد التذكير بواجب التصحيح لذاكرة أجيالنا، والاعتذار الصريح الجلي، من تلك العبودية السوداء، ومن أثر ميراثها على أجيالنا الحديثة، وخصوصا بقية اللغة العنصرية الخبيثة، ضد أصحاب البشرة السمراء من أهلنا.
وهنا لا بد من أن أُذكّر بمختصر ما حررتُه في كتاب فكر السيرة، لتوصيف المشهد الذي جرى في الخليج، واستخدام المركز العُماني وغيره في شراكة الغرب الاستعماري المتوحش، لتسويق سوق النخاسة الظالم، لا تلغي مسؤولية الشركاء، من تجار العبيد الظالمين من أهل الخليج، المستحقين للعقوبة دنيا وآخرة. وموقف الإسلام من هذه الظاهرة هو إبطالها بالكلية، فهذه العبودية كانت تقوم على غزو التجارة المجرم سواحل أفريقية وغيرها، ثم اختطاف أولئك الأحرار وبيعهم، ملف موجع في أنّات المفقودين من ذويهم في سفن الإجرام، وفي صرخة الرضيع الذي قذفوا به من السفينة، فأحرقوا قلب أمه، فكانت حكايات ظريفة ورفيقاتها قصصا من أحزانٍ لها تاريخ من الواقع، فلا علاقة لذلك كله بمبادئ الأسر في الإسلام، المحدّدة والمشترطة وواجبة الإحسان في التعامل، وحتى تلك المساحة التي انتشرت في بعض الحروب، وازدهرت فيها تجارة الرقيق، فقد خالفت الهدي الإسلامي لمقاصد الأسر. وحينها يجب أن يُحمى الأسرى بوسائط تضمن حقوقهم، حين يخلّ المسلمون وسلاطينهم بهذا الفقه. أما الحالة المتأخرة في القرون الأخيرة في الخليج، فقد كانت جرائم حرب اختطفت أحرارا من دورهم، وكفرت بحقوقهم وبمنهج الإسلام المعظّم لهذه الحُرمة الإنسانية، ثم وقعت وثيقة التزوير باسم دين الله.