العلّة ليست في بوتين وحده
يحتاج النظر في الغزو الروسي لأوكرانيا إلى الفصل بين مستويين: الإدانة الأكيدة للاعتداء الروسي على سيادة دولة وحقوقها، وعلى أمان شعب وسلامته وحياته، والتضامن الأكيد مع هذا الشعب، ولا يوجد في العالم أحد يستطيع أن يفهم ويشعر بحال الشعب الأوكراني اليوم، أكثر من الشعب السوري الذي ينتمي له كاتب هذه السطور. المستوى الثاني فهم تكون شروط انفجار الحرب وسياقها، من دون الاستسلام إلى إغراء الاختزال بثنائية فقيرة، وإن تكن مريحة، فيبدو أنّ طرفي الصراع المندلع هما الديمقراطية وأعداؤها، وأنّ السبب الأساسي لاندفاع العدوانية الروسية هو اقتراب الديمقراطية (وليس اقتراب حلف الناتو) من حدودها، كما يقول بعضهم مدللين على قولهم إنّ "الناتو" موجود سلفاً على حدود روسيا في جمهوريات البلطيق، من دون أن ينتبه هؤلاء إلى أنّ الديمقراطية أيضاً موجودة سلفاً على حدود روسيا، ممثلةً في هذه الجمهوريات نفسها. وإذا كانت الحجّة أنّ أثر الديمقراطية في أوكرانيا على روسيا أكبر، يمكن القول إنّ لوجود أوكرانيا في الحلف أثراً أكبر على روسيا أيضاً. وهناك من يختزل الأمر في القول إنّ دافع التحرّك العسكري ضد أوكرانيا هو النزعة التوسعية الروسية، من دون أيّ إضافة، كما لو أنّها أمر مستجد أو خاص بقوة عظمى دون غيرها.
توجد أنظمة ديمقراطية تستقرّ على علاقات قوى داخلية، فيها قدرٌ جيدٌ من تقييد السلطات لصالح حضور مؤثر للرأي العام
لا يصحّ اعتبار أنّ طبيعة النظام الروسي، البعيد عن المعايير الديمقراطية، أو أنّ الطبيعة الشخصية التسلطية للرئيس فلاديمير بوتين، ونزوعه إلى إعادة إحياء الإمبراطورية الروسية، هما ما يفسّر الاعتداء الروسي على أوكرانيا، فالديمقراطية في أميركا لم تمنع الرئيس جون كينيدي من التهديد بإشعال حرب عالمية ثالثة ما لم يسحب الاتحاد السوفييتي الصواريخ التي نصبها في كوبا عام 1962، ولم تمنع الديمقراطية أميركا من اعتبار أميركا الجنوبية حديقة خلفية لها، بكلّ ما يعني هذا من تحكّم ومن نشوء أنظمة حكم عجيبة، صارت مادة لأدب أميركي لاتيني عالمي. كما أنّ الديمقراطية في بريطانيا لم تمنعها، مثلاً، من غزو جزر فوكلاند (أو المالفيناس) في 1982، لتأكيد سيطرتها على الجزر. في الأمر مصالح أمنية استراتيجية لقوى كبرى، وهذه مستقلّة إلى حد كبير عن نوعية النظام الحاكم أو شخصية الرئيس فيه.
في عالم اليوم، توجد أنظمة ديمقراطية تستقرّ على علاقات قوى داخلية، فيها قدرٌ جيدٌ من تقييد السلطات لصالح حضور مؤثر للرأي العام والمجتمع المدني والقيم الديمقراطية، ما ينشئ توازناً معقولاً في العلاقة بين السلطة السياسية والمجتمع. وتشكّل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية المجال الأهم لحضور هذه الأنظمة. كما توجد أنظمةٌ تسلطيةٌ يكون المجتمع فيها مكبلاً، بحدود متفاوتة، تجاه السلطة التي تستولي على المجال العام، وتميل إلى تأبيد ذاتها، وتشكّل روسيا والصين المجال الأبرز لهذه الأنظمة. فقد عدّل بوتين الدستور ليتمكن من الاستمرار في الحكم حتى 2036، كما عدّل الرئيس الصيني شي جين بينغ الدستور وصار يمكنه الاستمرار في الرئاسة مدى الحياة، غير أنّ العلاقات الخارجية لهذه الدول الكبرى تحكمها أساساً المصالح الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية، أكثر مما يحكمها شكل النظام السياسي فيها. لا يحتاج الأمر إلى التذكير بأنّه كثيراً، أو غالباً، ما وقفت الديمقراطيات الغربية داعمةً لأنظمة ديكتاتورية في غير مكان، وشنت حروباً لإسقاط سلطات منتخبة.
كان يمكن إحراج بوتين لو تعهدت أميركا أو أوكرانيا بعدم انضمام الأخيرة إلى "الناتو"
السعي الأميركي إلى إغراق روسيا "في المستنقعات" مستمرّ، وما يجري في أوكرانيا يشبه ما جرى ويجري في سورية، فهو يندرج في السياق نفسه، وإن كانت الحلقة الأوكرانية أكثر خطورة، بسبب موقعها الجغرافي الأوروبي. تقوم السياسة الأميركية على إنشاء شروط الحرب في بقعةٍ ما، مستفيدة من عناصر محلية محقّة وعادلة، ثم الاستثمار في الصراع المشتعل، والعمل على ضبطه ومنع انتشاره. وميزة هذا النوع من الصراعات، التي تجتهد أميركا وتساهم في إيجاد شروط اندلاعها، أنّها تعود بمكاسب لأميركا في كلّ حال، وكيفما مالت النتائج، على أنّ أميركا تحرص، كما نشهد في سورية وفي العراق واليمن وليبيا، على إبقاء الصراع مستمرّاً تحت عتبة الحسم. ومن المرجّح أن تدخل الحرب في أوكرانيا هذه الحال أيضاً، كما "تنبأ" الرئيس الفرنسي بالقول: "الحرب في أوكرانيا ستطول". ومن المفهوم أنّ في ذلك عزلاً وإرهاقاً عسكرياً واقتصادياً لروسيا، وفيه شدٌّ لعصب الناتو، حتى إنّ بلداناً حيادية تاريخياً مثل السويد وفنلندا بدأت تفكر، على وقع العدوانية الروسية، بالانضمام إليه. هذا في حين كان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، قد قال، في بداية ولايته الرئاسية، إنّ "حلف الناتو مؤسسة عفا عليها الزمن"، وتردّد أنّه يريد الانسحاب من الحلف.
لا نتجاوز على المنطق إذا قلنا إنّ السياسة الأميركية حيال روسيا (عدم احترام المجال الحيوي لقوة عظمى) ساهمت في تهيئة التربة المناسبة لبروز أمثال بوتين، الذي خاطب الشعب الروسي قبيل غزوه أوكرانيا باللغة التي لها مستقبلات خاصة عند الروس عبر التاريخ: "من أين تأتي هذه الطريقة الوقحة في التحدّث من موقف الهيمنة والفوقية؟ من أين يأتي الموقف المستهتر والازدرائي تجاه مصالحنا والمطالب المشروعة المطلقة؟". وقد كان يمكن إحراج بوتين لو تعهدت أميركا أو أوكرانيا بعدم انضمام الأخيرة إلى "الناتو". وحماية أوكرانيا من غزو روسي لا تحتاج دخول حلف الناتو، فلم تكن الكويت في حلف الناتو حين دخلت أميركا حرباً واسعة لاستعادتها من العراق، كما أنّ "الناتو" تنكّر لتركيا، وهي عضو فيه، ووجدت نفسها وحيدة إزاء روسيا في أزمة إسقاط الطائرة الروسية في 2015، غير أنّ الإصرار الأميركي ودفع أوكرانيا إلى رفض التعهد هما من سياسة إنتاج شروط الحرب، وقد لاحظ العالم التخلي الأميركي وخذلان أوكرانيا مع اندلاع الحرب.
لا مهرب من رؤية علاقات القوى الدولية وصراعاتها المستقلة بصورة شبه تامة عن مصالح الشعوب
ولا نتجاوز على المنطق إذا قلنا إنّ السياسة الأميركية حيال الثورة السورية (تساهل مع بروز التيارات الجهادية ثم مع التدخل الروسي) ساهمت في وصول الحال السوري إلى هذا الحضيض. وليس في هذا كله خطأ سياسي في الحسابات، بل هو بالأحرى سياسة محدّدة، غايتها إبقاء العالم في حالة إنهاك وحاجة مستمرّة إلى السلاح. الحروب المحصورة هي حاجة مستمرة للنظام العالمي المختل الذي نعيش فيه، فالدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن هي الأكثر إنتاجاً للأسلحة، ويمكننا إذاً أن ندرك ما هو "الأمن" في منظورها.
صحيحٌ أنّ النظام الروسي تسلطي يساند الطغم المستبدة، وأنّ الشعب السوري من بين أكثر الشعوب التي ذاقت الويلات على يد هذا النظام، الحليف للنظام الكيماوي السوري. مع ذلك، لا مهرب من رؤية علاقات القوى الدولية وصراعاتها المستقلة بصورة شبه تامة عن مصالح الشعوب، لا بل المعادية لمصالح الشعوب. النظام العالمي بقطبيه، الديمقراطي والمستبدّ، يجعل من المطالب العادلة والمحقة للشعوب عناصر للاستهلاك، ومن الشعوب مادّة للقتل وللتشرّد والبؤس، في ماكينة الصراع فيما بينهما. ومن العبث التعويل الجدّي على أيٍّ منهما في الصراع لترسيخ شروط حياة أفضل.