الغضب المعزول في فرنسا
تشير الاحتجاجات الشعبية التي لا تهدأ في فرنسا إلى حيوية المجتمع الفرنسي وحضوره الدائم، بكل الأشكال، للضغط على السلطات الحاكمة، والاعتراض على تجاوزاتها وعلى التهميش والتضخّم وميل القدرة الشرائية إلى الانخفاض. لكن يمكن للمراقب ملاحظة خطّين منفصلين من الصراع في فرنسا، لا يلتقيان رغم ما يجمعهما في المنبع.
الأول خط صراع اجتماعي تمثله حركة الإضرابات والمظاهرات والاحتجاجات التي يشارك فيها القطاع الأوسع من الشعب الفرنسي، حركة السّترات الصفراء (2018 – 2020) مثالٌ بارز، وكذلك الاحتجاجات والإضرابات التي خرجت هذا العام، ضد قانون التقاعد الجديد. والثاني خط صراع مختلط (اجتماعي/ هوياتي)، غالبية المشاركين فيه هم من المهاجرين أو الفرنسيين من أصول غير فرنسية، وأحياناً يسمّون، بتضمين سلبي، "فرنسيين على الورق". ويبقى هذا الخط، إلى حدّ كبير، معزولاً عن الفرنسيين من أصول فرنسية أو الذين ليسوا من أصل أجنبي مباشر. وبالتدقيق أكثر، يمكن القول إن من يشارك في خط الصراع هذا هم أساساً الفرنسيون من أصول أفريقية (عربية وغير عربية)، وربما ينضمّ إلى هذا الخط لاحقاً اللاجئون إلى فرنسا بعد تحطّم الثورات العربية، وإن كان هؤلاء لا يحملون في نفوسهم تجاه فرنسا القدر ذاته من مخلفات الإرث الاستعماري الفرنسي.
هذا الخط من الصراع، وهو خطّ ضعيف التبلور تنظيمياً ويتسم بالغضب المنفلت وبغلبة العنصر الشاب (متوسط أعمار المشاركين في الاحتجاجات أخيراً في فرنسا 16 عاماً)، ينوء تحت ثقل القاسم المشترك للمنخرطين فيه، وهو الانتماء الإسلامي، بالرغم من غياب أي منطوق إسلامي في هذه الاحتجاجات.
لماذا تبقى احتجاجات هؤلاء الفرنسيين "الأجانب" معزولةً، رغم أن ما يحرّكها (التهميش ونقص الخدمات والفقر النسبي) هو ما يحرّك الاحتجاجات الاجتماعية الأخرى؟ لماذا لا يتضامن فرنسيو الأصل، بمن فيهم الطبقات الفقيرة، مع هذه الاحتجاجات؟
%77 من الفرنسيين يثقون بالشرطة، و18% فقط أبدوا شكلاً من التفهّم لغضب المحتجين، مع رفض تام للاحتجاج العنيف
تندرج الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها فرنسا في الفترة الأخيرة، عقب قتل الفتى نائل المرزوقي (17 سنة) على يد أحد عناصر الشرطة في 27 يونيو/ حزيران الماضي، ضمن الخط المختلط من الصراع الذي ينطوي على بعد هوياتي. وبهذا تختلف عن احتجاجات ذوي السترات الصفراء، ويختلف بالتالي تفاعل الفرنسيين معها.
يعتقد المشاركون في هذه الاحتجاجات ومعظم من يؤيدهم أن السبب الذي جعل الشرطي الفرنسي يقتل الفتى جزائري الأصل ليس عدم امتثاله للأوامر، بل ملامحه العربية، وهو ما عبّرت عنه بصراحة الأم الثكلى، لا سيما أن مقطع الفيديو الذي صوّره أحد المارة يبيّن أن الشرطي لم يكن في خطر حين استخدم سلاحه للقتل. وفي المسيرة البيضاء التي شهدتها نانتير، بلدة الضحية، رفعت لافتات صريحة مثل "90% ممن قتلتهم الشرطة ليسوا من البيض"، "الشرطة عنصرية".
الحادثة فظيعة بحد ذاتها، وقد أثارت موجة غضبٍ واسعةٍ تجلّت في أعمال شغب وتخريب وحرق طاولت وسائل نقل عامة ومراكز بيع خاصة وبلديات ومدارس... إلخ، وتخللتها عمليات نهب. على أن موجة الغضب ظلّت محصورة في دائرة المهاجرين، ولم تشمل فرنسيي الأصل، رغم وضوح الطابع العنصري للحادثة. وظلّ التضامن اليساري مع الاحتجاجات محصوراً في دائرة النخبة.
تفيد استطلاعات رأي، أجريت عقب الحادثة، بأنّ 77% من الفرنسيين يثقون بالشرطة، و18% فقط أبدوا شكلاً من التفهّم لغضب المحتجين، مع رفض تام للاحتجاج العنيف. هذا يعني أن 82% منهم تفهّموا قرار الشرطي بقتل الفتى. يمكن لأحدٍ أن يقول إن هذه النتيجة تعكس غضباً فرنسياً مضاداً تولد من أعمال الشغب التي تلت الحادثة. ولكن عنفاً مشابهاً ظهر في احتجاجات السترات الصفراء، وطاول رموز الجمهورية مثل قوس النصر وضريح الجندي المجهول، هذا فضلاً عن عمليات التكسير المنهجي الذي مارسته جماعة (بلاك بلوك) وما رافقها من نهبٍ أيضاً، مع ذلك لم يثر الأمر غضباً فرنسياً "شعبياً" إلى هذا الحد، وبقي لحركة السترات الصفراء تأييد واسع في الشارع الفرنسي. بعد سنة من انطلاق تلك الاحتجاجات، رأى 53% من الفرنسيين المستطلعين ضرورة استمرار الحركة.
لا يمتدّ احتجاج الفرنسيين من أصول مهاجرة على التهميش وسوء المعاملة والقتل إلى الجمهور الفرنسي
من المهم ملاحظة أن حادثة قتل الفتى نائل كانت النقطة التي أفاضت الكاس، وأنها أضافت إلى ديناميت شعور المهاجرين بالتهميش والإهمال وسوء المعاملة صاعق تفجير هو القتل "العنصري" على يد جهاز الدولة الذي يفترض أنه موكل بحفظ الأمن وفرض القانون. هذه وصفة انفجارية، وسبق لفرنسا أن جرّبتها في 2005، حين كان نيكولا ساركوزي وزيراً للداخلية، وقد واجه الاحتجاجات حينها بحزم، وكوفئ "شعبياً" بانتخابه رئيساً للجمهورية في 2007.
لا تصعب ملاحظة أنّ احتجاج الفرنسيين من أصول مهاجرة، على التهميش وسوء المعاملة والقتل، لا يمتدّ إلى الجمهور الفرنسي، ولا يلقى التعاطف "الطبيعي". يصعب الاقتناع بأن سبب ذلك يعود إلى أعمال التخريب التي يقوم بها هؤلاء المحتجّون، فقد بات التخريب وسيلة المحتجّين الوحيدة لإجبار الحكومة على الإصغاء، هذا ما بات يقر به كثيرون، وبات يُنظَّر له في الأحاديث والكتابات. إن كانت أعمال التخريب تصدّ، في الواقع، كثيرين، وتخفّف من تأييد الحركة، فإن كثيرين أيضاً باتوا يدركون أن "تطنيش" الحكومة يدفع المحتجين إلى التكسير والحرق.
يبدو لنا أن سبب انعزال أو عزل احتجاجات المهاجرين هو غلبة صورةٍ عن هؤلاء بأنهم يميلون إلى خرق القانون، إضافة إلى وجود تصوّر مستقر لدى الفرنسيين بأن ولاء ذوي الأصول الأجنبية إلى بلدانهم الأصلية يعلو على ولائهم لفرنسا. وهو تصوّر له مستندات واقعية، وهذا أحد إشكالات الهوية في هذا العصر. الأهم من ذلك أن لدى معظم الفرنسيين تصوّراً أن المسلمين في فرنسا لا يصدُرون في عمق إرادتهم عن رغبة في المساواة، بل يُضمرون إرادة السيطرة بوصفهم "أهل الحق". ورغم تعسّف هذا التصور، فإنّه يرسم خطاً فاصلاً مع المحتجين، لا يكفّ بعض الإسلاميين عن تغذيته وتعزيزه. لنقرأ على سبيل المثال تعليق أحدهم، في صحيفة واسعة الانتشار، على الأحداث في فرنسا، "بإذن الله، ستعود فرنسا إلى حمى المسلمين ونرفع راية الإسلام رغماً عن أنوفهم". نخطئ إذا اعتقدنا أنّ هذه أصواتٌ فردية، ونخطئ إذا اعتقدنا أن هذا الصوت يخفى عن إدراك (ومشاعر) الفرنسيين الذين باتوا يستبطنونه حتى لو غاب. أما اليمين الفرنسي الذي يتحوّل أكثر فأكثر، حيال هذا الموضوع، إلى كتلة يمين متطرّف واحدة، فإنه لا يكفّ عن النفخ في التخوّف الفرنسي الذي يثيره هذا التصوّر. هكذا يمكن القول إن ما يوحّد المحتجّين "المسلمين" هو نفسه ما يبعد المجتمع الفرنسي عنهم.