الكذب في لغة أهلنا الطيبين
يستخدم أهلُ مناطقنا مع الكذب جذر الفعل "طَشَّ"، إذا أرادوا أن يصفوا رجلاً كذاباً أشراً، يقولون إنه يطشّ كذباً. يقول لك محدثُك، مثلاً: البارحة جاء فلان الفلاني لزيارتي، وقعد، وصار يطشّ... ويسكت، مع أنّ المفروض أن يحدد فيقول "قعد يطش كذباً" لكنّه يرى أن لا داعي لذلك، فكلاكما تعرفان المقصود... ويزعم محسوبكم أنّ الفلاحين هم الذين نحتوا هذا المصطلح، لأنّهم يستخدمون الفعل "طَشَّ" مع السماد البلدي. يسأل الفلاحُ ابنه البارّ عمّا أنجز من أشغال في الحقل، فيقول: طَشّيت السماد على الأرض... ويطلقون على الكذّاب سلسلة ألقاب تشتقّ من فعل طَشَّ، مثل الطشّاش، أو طشُو، أو طشونة، أو المِطَشّ... وبعضهم يميلون إلى التنويع، فيقولون: فلان يفرم كذباً، ويسمونه الفَرَّام، وإذا باشر بالكذب يقولون، من باب الكناية: شَغَّل الفرامة. والفرامة اسم آلة، على وزن فَعَّالة، وهذا الاستخدام يفيد بأن هذا الكذاب مُكثر، ولا يرضيه الإنتاج اليدوي (الفَمَوي)، بدليل اعتماده على المكننة والأتمتة في الكذب.
طَشُّ الكذب، أو فَرْمُه بالفرّامة، ليس أمراً سيئاً بالمطلق... وهو ملازمٌ للأدب، ولأدبِنا العربي على وجه الخصوص. ولأنّ الشعر ديوان العرب، تراه يتركّز بالشعر، وبعض النقاد العرب مدحوا الكذب وجعلوه صنو الإبداع والعذوبة، بقولهم: أكذبُ الشعر أعذبُه. يعني: كلما طششتَ وفرمتَ ارتفعت شاعريتُك. وهذا قد تجده في حالة شابٍّ يعشق فتاة، يجلس ليصفها فيكثر من مديح محاسنها، ويسكت، عامداً، عن عيوبها، وهي بدورها تحمرّ خجلاً وتقول له: حبيبي كلامك جميل، كأنّه شعر.
هناك ثلاثة أغراض شعرية قديمة تعتمد طشّ الكذب بشكل أساسي، وهي: المديح، والفخر، والرثاء. الممدوح يحتلّ موقع الشمس بين الكواكب، وأحياناً القمر، أو النجم... وقلما يوصف ممدوحٌ بالحكمة ورجاحة العقل والعدل، وإنّما بالقوة، بل الشراسة، لذلك يشبّهونه بالأسد، والنمر، وأحد الشعراء شبّهه بالتيس عندما يقارع الخطوب... والفخر يرفع من شأن القبيلة، رفيعة الشأن بالفعل، أو كانت خسيسة، أو عاديةً مثل بقية القبائل التي خلقها الله... ونحن، حقيقة، لا نعرف كيف كانت قبيلة تغلب في الجاهلية، لكن يكفي تلك القبيلة أنّها أنجبت أكبر فَرَّام كذب في تاريخ الأمم، أعني عَمْرَاً بنَ كلثوم، ليس بدليل الكذبة التي فرمها عن صبيٍّ بلغ الفطام فخرَّ له الجبابرُ ساجدينَ وحسب، لكن لأجل قوله: "ملأنا البرَّ حتى ضاق عنا/ ووجه البحر نملأُه سفينا". مع أنّ كلّ الناس، ومن ضمنهم ابن كلثوم، يعرفون أنّ البحر بعيد جداً عن منطقة نجد الصحراوية التي تعيش فيها قبيلة تغلب، والسفينة الوحيدة التي يعرفونها هي الجَمَل. وأما عن الكذب في الرثاء فحدّث ولا حرج، لأنّ الرثاء يقوم أساساً على تضخيم محاسن المتوفّى، والراثي يفعل ذلك وهو مطمئنٌ إلى أنّه لا يوجد مَن يعارضه، مهما عدّد من مناقب الميت، فهذا أمرٌ ينسجم مع حرمة الموت وجلاله.
والهجاء لا يخرج عن إطار الكذب، بالطبع، فلو أنت اطّلعت على شعر كبير هجّائي العربية، ابن الرومي، لراعك أنّه يهجو الشكل الخارجي للمهجوّ، ويركّز على صلعته، وضخامة أنفه، وطول لحيته، وقبح صوته، عدا عن أنّ مهجوّي ابن الرومي كلهم قَوَّادون، ترخص عليهم أعراضُ نسائهم، والرجال أنفسهم، عنده، لا يصونون عِرضهم... في حين أنّ أبا عثمان الجاحظ يستخدم الهجاء، نثراً، بطريقةٍ فنيةٍ عالية المستوى، فيذهب باتجاه ذمّ الطباع، البخل مثلاً، ويبدع في تأليف القصص التي تدلّ على نذالة بخلائه، وشحّهم، وجشعهم، وأساليبهم المبتكرة بالتوفير.
هذا كله ونحن لم نتطرّق إلى كذّابي العصر الحديث، في مجال السياسة، والإعلام، وبالأخص إعلام الدول المحكومة بالحديد والنار، وليس أدلّ على ذلك مما قاله الأديب الراحل ممدوح عدوان، في سنة 1983، إنّ الإعلام السوري يخفي الكوليرا، ويكذب حتى في درجات حرارة الطقس.