اللقاء الأخير بين الجدّ و"روح الروح"

25 ديسمبر 2024

نشطاء يرفعون جدارية للجد خالد نبهان وحفيدته في نوفي بازار بصربيا (منصات التواصل)

+ الخط -

أخيراً، ها قد التقيتها، يا أيّها الجدّ الحزين، الفاقد لروح روحك قبل ما يقرب العام من الفراق، ولعلّك تذكر كيف أبكيتنا جميعاً، والحقّ يقال: إنّنا تذكّرنا أجدادنا الراحلين، عندما كنتَ ترفع ريم الصغيرة بين ذراعيك، لكي تتأكّد أنّها قد ماتت، وأخبرتنا لاحقاً أنّ الليلة الأولى بعد رحيلها مع شقيقها، قد أمضيتها وأنت تتساءل: "هل ماتا حقّاً، أم أنّ هناك خطأً ما قد حدث؟"، وكنتُ أريد أن أخبرك أن هذا السؤال نسأله جميعاً لأنفسنا حين نفقد عزيزاً وحبيباً. فحين فقدت جدّتي لأمّي، سألت نفسي كثيراً وعلى صغر سنّي: "هل ماتت جدّتي، أم أنّ هناك خطأ قد وقع؟"، إلى درجة أنّني فكّرت أن أنبش قبرها، لولا رهبتي من أجواء المقابر، وحين كبرت قليلاً عرفت أنّ هناك ما يُعرَف بغيبوبة السُّكّر، وتوقّعت أن تكون جدّتي قد دُفنِت بسببها، وأنّها لم تمتْ، ولكنّهم أهالوا التراب فوقها وماتت مختنقة، فحزنت أكثر، وخنقتني دموعٌ حارقةٌ سنوات.
لا يمكن أن أصف لك شعوري وأنت تحتضن "روح الرّوح"، وأنا كنت مثلها حفيدةً مُقرّبةً لجدّي، حين كان يحبّني حبّاً خاصّاً، وقد أمضيت سنوات طفولتي في بيته الفقير، وكنت أراه على بساطته قصراً، فكنت أحبّ سرير جدّي ذا الأطراف المهشّمة، والحشوة البالية، والأغطية القديمة، التي تنبعث منها رائحة الدُّخان، وحيث كان جدّي يوقد النار في موقد عتيق، بالقرب من سريره، ثم يبعده خارج الغرفة، حيث يتساقط المطر في الخارج، وبعد أن يشيع الدفء في الغرفة ذات السقف القرميدي، وننام في دفء لا يوصف. والحقيقة أنّني كنت أشعر بالدفء بالقرب من أنفاس جدّي ورائحة جسمه، وبعد ذلك اكتشفت أنّ للمسنين رائحة مميّزة لأجسامهم، وقد كنت أحبّ رائحة جدّي، وأشعر بالأمان حين تعبق في أنفي، وكان البعد عنه يعني أنّني قد أتوه وأضيع في هذا العالم المُكتشف عندي رويداً رويداً.
للأجداد سياسة خاصّة مع الحفيد المُقرّب، تجعل قربه منهم عادةً متوارثةً، فدائماً ما يكون هناك حفيد مُقرّب من الجدّ والجدّة، يختلف عن باقي الأحفاد، ويتّخذ مكانةً خاصّةً بينهم، مثل أن يكون مسؤولاً عن ممتلكات الجدّين (على بساطتها) والحفاظ عليها حين يأتي باقي الأحفاد في زيارة سريعة، فتجد نفسكَ تحرص على إخفاء الأشياء الثّمينة في نظرك عن الأحفاد العابثين، وتهمس في أذن جدّك الذي ضعف سمعه، أنّ فلاناً قد قطف أكثر من ثمرتَي تين من فوق غصن الشجرة العملاقة، فيشير الجدّ بيده لك إشارة تعني أن تصمت، وأن علينا أن نحتمل من أجل خاطر الأم التي جاءت مع الأحفاد، لأنها سوف تغادر في نهاية اليوم، وستبقى أنت مع الجدّ، ومعك تصريح مفتوح بأن تتناول ما تشاء من حبّات التين.
عندما كان الجدّ أبو ضياء يصرّح بأسى أمام شاشات العالم، أن الحفيدة ريم هي "روح الرّوح"، تخيّلت حزن ريم لو قُدّر لها طول العمر، لكي تنعكس الأدوار وتودّع جدّها إلى قبره، مثلما حدث معي وأنا أودّع جدّي، ولم أكتشف سبب تعلّقه بي حتى كبرت، وعرفت أن الأجداد يطبّقون المثل الذي لم يكذب أبداً، وهو أنّه "ليس هناك أغلى من الولد إلّا ولد الولد"، ويبدو أيضاً أن الأجداد يشعرون بخجل قليل، فلا يجرؤون على احتضان الابنة وتقبيلها، وتمسيد شعرها، وقد أصبحت زوجةً لرجل آخر، ويتذكّرون كيف كان الأب هو الرجل الأول في حياتها، فيغدقون هذه المشاعر على ابنتها، ولذلك لم يكن جدّي يتوقّف عن احتضاني وتقبيلي، وتمليس شعري، والتغزّل بصفاء بشرتي وبياضها، حتى نهرته أمّي عن ذلك ذات يوم بقولها: "إنّ التدليل للبنات مفسدةٌ"، ولم تكن تعرف أنّه يصرّ على ممارسة دور الرجل الأول في حياة أنثى تملك روحه، ولم نكن نعرف نحن (حتى جاءت هذه المقتلة)، أنّ الأحفاد يغادرون قبل الأجداد بوقت قصير، لكي يبكي العالم كلّه في لحظة صدق واحدة حفيدةً كانت "روح الرّوح".

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.