لا موت رحيم في غزّة
لستُ بحاجة لكي أكرّر أنني، على الرغم من خروجي من غزّة، خلال شهور المقتلة التي ما زالت دائرة، لم أستطع أن أنسلخ عمّا يجري فيها ولو ساعة، حتى طالبني بعضهم بضرورة أن ألتقي بطبيب نفسي لكي يساعدني على الخروج من الحالة التي أعيشها، والتي من أعراضها أنني لا أستطيع الجلوس في غرفة مضاءة، أو تحت ضوء الشمس، لأني اعتدت شهوراً طويلة أن أتحرّك وأتلمّس كل خطواتي، وأقوم بأعمالي في عتمة بيوت النزوح، حيث لا كهرباء، ولكن هناك مصادر إضاءة بدائية، وحيث يكون الخروج إلى نور الشمس مثل الخروج لمواجهة رصاص القنّاص بصدر عارٍ، وأنت تعرف أن احتماءك في بيتك لا يفعل شيئاً سوى أن يطيل عمرك قليلاً قبل أن تصطادك رصاصاته.
حاولتُ العمل بنصيحة من حولي، بإدارة مؤشّر شاشة التلفاز عن القنوات الإخبارية، ومحاولة متابعة مسلسل، وقد فعلت ذلك دقائق لأجد نفسي أمام مشاهد صادمة، وربّما مكرّرة وممسوخة لزوجة تطلب من الأطباء إنهاء حياة زوجها بالقتل الرحيم. ورغم اقتناع الأطباء بأن هناك أملاً واهياً بأن يعود من غيبوبته إلى الحياة، إلّا أنّهم انصاعوا لطلبها، فقد كانت امرأة ثريّة، وترغب في زيادة ثروتها بتعجيل رحيل زوجها. ولذلك لم يطرف لها جفن وهي تتابع الأطباء المُمتثلين لإغراء المال، والمُتناسين القسم المقدّس وهم ينزعون الأجهزة تباعاً عن جسد زوجها، الذي سكنت فيه الحياة تدريجياً، وأعلنت المؤشّرات الحيوية استسلامها، لأنّها لم تكن قادرة على العمل من دون مساعدة من أجهزة كثيرة كانت تتصل بجسده الواهن النحيل، من خلال أنابيب وأسلاك كثيرة. وحين كان قناع الأكسجين ينزع عن أنفه وفمه، كانت الزوجة القاتلة تتنفس الصعداء.
لم أكن أتخيّل أنّ هناك بشراً يقرّرون أن يفعلوا ذلك، وهناك أملٌ في أنّ إنساناً قد يستيقظ من غيبوبته، وقد يبقى على قيد الحياة، حيث لا حدود للمعجزات الطبية التي يقف العلم عاجزاً أمامها، وحيث دائماً هناك مفاجآت في حالاتٍ مرضيةٍ كثيرة أعلن الأطباء استحالة شفائها، ولكن القدر كان يقول كلمته، وفي اللحظة نفسها، يعلن الأطباء أن ما حدث كان معجزة، فلا وصف أكثر لذلك.
اللافت أنني لم أستطع أن أتابع مشاهد تالية من هذا المسلسل العربي المُستقي أحداثه من مسلسل أجنبي، كدأب الدراما العربية في الوقت الحالي، وحيث لفتني بعد ذلك مباشرةً خبرٌ قرأته عن طبيب في شمال غزة ظلّ يتابع، في صمت ويأس، نفاد أسطوانة الأكسجين الوحيدة التي كانت تمدّ جسد شابٍّ يصارع الموت، بعد إصابته بقصف مجنون، ولكن الأسطوانة المحتضرة كانت تقول للأطباء والأحبّة المحيطين بالشاب إنّ ثمّة أملاً أن يشفى الشاب ويستيقظ من غيبوبته، ولكن الأسطوانة الأخيرة نفدت بقرار قتل مع سبق الإصرار في المشفى المحاصر (مستشفى كمال عدوان)، وحيث يصر العدو المجرم على عدم تزويد المشفى الصغير الذي يجاهد أيضاً لكي يبقى على رأس الخدمة بأيّ معدّات طبّيّة، فيقرّر ما تبقّى من معدّات أن يتخذ قراراً أحادياً بالقتل الرحيم.
كان خيالي جامحاً ومُبكياً، وقد أعادني بكل جدارة إلى الحالة النفسية التي صرتُ عليها، والتي لم تخرجني منها محاولة بائسة لوضعي أمام مسلسل عربي فاشل بامتياز، صوّر لنا زوجة تجرّدت من كل المشاعر من أجل المال. ولأني وجدتُ نفسي أمام حلقة أخرى وجديدة من المسلسل الذي لا ينتهي، ولم يستطع أحد كتابة الحلقة الأخيرة أو حتى نهاية آخر حلقات موسمه الأول، وهو مسلسل القتل المُتعمّد والممنهج في غزّة، وحيث يصرّ العدو وبكلّ الطرق على قتل أهل غزّة الواهنين، سواء بقتلهم وهم على أسرّة الشفاء في مشاف متهالكة، أو قتلهم بالقصف المباشر والمستمر، أو قتلهم جوعاً وعطشاً وبرداً في خيامٍ لا تستحقّ سوى أن يطلب ساكنوها الموت الرحيم، ولكن لا موت رحيم في غزّة.