المثقفون لا يتكتكون
لم يتحمّس مثقّفونا لأي من تطبيقات التواصل الاجتماعي فور ظهورها. وقفوا، في البداية، موقفَ المتفرّج الحَذِر من فيسبوك، وإنستغرام، وتويتر، ويوتيوب، ثم التحقوا بها تدريجياً، فكانت لهم فيها مواقعُ، ونشاطات أدبية وفنية، وبعض منهم أدمنوها، نشروا عليها معظم إبداعاتهم القديمة والجديدة. وأظن أن كثيرين منهم لم يدركوا بعد خطورة تطبيق "تيك توك" الصيني العجيب، الذي يعمل بموجب "خوارزميات" رياضية جبّارة، تجعل مَن يستغرق فيه لا يطيق مغادرته.
لم يكن سهلاً على محسوبكم استيعاب هذه التقنية. أصابني ذهولٌ كبير وأنا أقلّب صفحاته. تخيّلت نفسي في حي كبير كان مأهولاً بالسكان، ولكنه تعرّض لقصف بالبراميل، وبعد توقف القصف، هبّ الأحياء من أهله لدفن قتلاهم، ورمّموا بعض الزوايا من خرابات بيوتهم، فجعلوها صالحة للسّكنى، ثم وفدت إليهم عيّناتٌ عشوائية من شعوب الأرض، وأقوام تسلّلوا إلى الحي من عمق التاريخ، وآخرون نزلوا عليه بالمظلات قادمين من مجاهل المستقبل، وكل فردٍ من هذه الشعوب والأقوام والأعراق متسلّح بموبايل ذي كاميرا ذكية، وبرنامج مونتاج، وميكروفون قادر على ثقب أسْمَك طبلة أذن في العالم، وانفلتوا، في هذا المكان، وراح كلّ واحد منه يصيح، ويغنّي على ليلاه!
إذا كانت المحرّكات، كلها، ابتداء من الصغير الذي يكفي لطحن ربع كيلو بنّ، وانتهاء بمحرّك الطائرة النفّاثة، تحتاج إلى وقود أو طاقة لكي يعمل، فإن وقود التيك توك، ببساطة، هو المال. وليس شرطاً أن يُعطى المال لباحثٍ أهدر نصف عمره، ونصفَ بصره بقراءة أمّهات الكتب والأبحاث، ولا لأديبٍ أوتي موهبةَ الشعر والقصة والرواية والمسرح، ولا لممثل نجم، ولا لسيناريست يكتب 1400 صفحة خلال سنة، ويحتاج إلى نصف سنة أخرى لمتابعة التعديلات حتى يَحْصَل، في خاتمة المطاف، على مبلغ ما... المالُ، في مدينة تيك توك العجيبة، لا يُعطى لمن يمتلك موهبة الكتابة، أو الرسم، أو الغناء، أو حتى الدبكة، ففي الأغلب يستطيع الذين لا يمتلكون أي موهبة، أو مهارة، أن يسبقوا جميع الموهوبين. وعليه، المنافسة في هذا الفضاء بالغةُ الصعوبة، وفي الوقت ذاته، بالغةُ المتعة.
امرأة تظهر بلباس محتشم، تقول كلاماً وهي موقنةٌ إنه لن يسبّب لها مساءلة من أهلها، وأخرى سافرة تقول ما تشاء ولا تبالي بأحد، وبعض النسوة يظهرن شبه عاريات. يمكنك، بالطبع، استبعاد كلمة "شبه"، بل إن العقوبة المتعارف عليها للمرأة التي تخسر في تحدّي "اللايف المشترك" أن تستحم أمام الكاميرا، ومعظم الكلام الذي يتبادلنه صريح، بل مقشّر. رجال بالزي العربي يدبكون على إيقاع الطبل، يُشار إلى أحدهم بسهم على أنه "راعي الأول". مقاطع من أغنيات، أو تمثيليّاتٍ، أو رقصات، أو حوارات تلفزيونية قديمة. رجل يباغت امرأة فيضربها على مؤخّرتها بمكنسة، أو امرأة تضرب زوجها على مؤخّرته وتضحك. فتى يرقص في الشارع، ليس كزوربا اليوناني، بل كمن يريد الحصول على متابعاتٍ تيكتوكية توصل إلى جيبه بعض المال. ختيار وامرأته العجوز يرقصان وهما يحملان أدوات المطبخ. الرقص ليس له، في تيك توك، مكانٌ محدّد، يمكن أن يكون على تلة في العراء، أو على سقيفة المنزل، أو على سطح برميل، أو في العرس. أكثر الأغنيات تداولاً: سَلَامه وسلمها سلَيِّم، ودكدكني دكدني، شلح توبي بهدلني.
قد تستغرب إذا قلت لك إن الرئيس العراقي السابق صدّام حسين أبرز نجوم تيك توك. يندر أن تقلب ثلاثة أو أربعة فيديوهات، من دون أن يمرّ أمامك مقطع له، يتضمّن جملة قالها عندما كان يحكم العراق، أو تسمع رجلاً يشيد بشجاعته، أو امرأة مشاركة تقول باللهجة العراقية: صدّام "جَان هيبة"... ومن كثرة السوريين الذي يمجدّونه ويرفعون صوره في المظاهرات المنقولة على تيك توك، يتهيأ للغريب أننا نريد إسقاط بشّار الأسد، وننصب صدّام رئيساً مكانه!