المرأة التي لا يطرق بابها أحد
في البدء، اعتقد سكان البناية، رقم 62، في شارع النهضة، أنّ المرأة التي تقطن في الطابق الثالث لم تعد تحبّ الأغنيات مثل السابق، وهي السبعينية الوحيدة التي لا يطرُق بابها أحد، إذا ما استثنينا صبيَّ البقال المكلَّف إحضار احتياجاتها، والعاملة البنغلادشية التي تنظف البيت مرّتين في الشهر. كانت قليلة الاختلاط، لا تخرج إلّا نادراً. اعتاد الجيران التذمر من صوت الموسيقى والأغاني المسموعة من بيتها طوال الوقت، حتى أنّهم حفظوا طقوسها عن ظهر قلب... في الصباح الباكر، ينطلق صوت فيروز في الأجواء. كانت تفضل أغانيها القديمة، وتخصّص ساعة كاملة لقصائدها الغنائية، الموشحات الأندلسية على وجه الخصوص، وتكرر سماع المقطع الأخير من قصيدة شهرزاد أكثر من مرة: "طارت الدنيا بمن أهوى وبي/ وافترقنا كيف يا ليل الرقاد... ساكن ما بين قلبي المتعب/ وجفوني وجهها رغم البعاد... ما اكتفينا بعد والدهر اكتفى/ فاقطفي الأحلام مثلي واسهري... آه يا عينيّ لو يُشرى الغفا/ من عيون ما لكنت المشتري".
تنتقل في الظهيرة إلى الموسيقى الكلاسيكية، فتهتز جدران شقتها من وقع ضربات بيتهوفن وباخ وموزارت. كانت تحب تشايكوفسكي في رائعته "كسارة البندق" تعيدها مراراً مأخوذة بجمالها الخالص. عصراً، تعود إلى مختارات من أغاني فايزة أحمد ونجاة الصغيرة ووردة الجزائرية، وعبد الحليم يطربها صوته الشجيّ الحزين، وهو يردّد باستسلام عذب "في سكّة زمن ضايعين/ في سكة زمان/ في نفس المكان راجعين/ في نفس المكان/ لا جراحنا بتهدى يا قلبي/ ولا ننسى اللي كان". وحين يحلّ الغروب، تفسح الفضاء كاملاً لأم كلثوم، تتنقل بين أغانيها الكثيرة، تبدأها دائماً بأغنية "أراك عصي الدمع" وتعرّج على "رق الحبيب" و"فكّروني" وتختم السهرة دائماً بـ"الأطلال".
لم ينجح الجيران الذين ضاق ذرعهم بها مرّة في ثنيها عن تلك الطقوس اليومية المزعجة. لطالما طالبوها بخفض صوت الموسيقى. تتذرع لهم بأنّ لديها مشكلة في السمع، تمنعها من خفض صوت الموسيقى، وتحاول إقناعهم بأنّ مختاراتها منتقاة بعناية، وأنّها تساهم في تحسين ذائقتهم الموسيقية. غير أنّ ذلك كلّه انتهى منذ فترة. استبشر الجميع خيراً، لأنّهم ظنوا أنّها رضخت، في النهاية، لاحتجاجهم، وتوقفت عن إزعاجهم.
لم يفكّر أيّ من الجيران في السؤال عنها. كان الجميع منهمكاً في تحضيرات العيد الكبير، مبتهجاً برفع الحظر وعودة الحياة إلى طبيعتها بعد حبس طويل. ذرعت الأمهات الأسواق، بحثاً عن ملابس جديدة لصغارهن، فيما انشغلت بعضهن في إعداد الكعك، كما انهمك الرجال في ابتياع الأضاحي بغية توزيعها على الفقراء صبيحة العيد. في ليلة الوقفة، وفي غمرة استعداد سكان البناية لاستقبال العيد، فاحت رائحة غريبة. تنبه أحدهم أخيراً إلى السكون العميق غير المعهود في شقة المرأة الغريبة. ارتاب في الأمر. احتشد مدخل البناية بالجيران. طرقوا الباب كثيراً من دون جدوى، فيما اشتدت الرائحة التي تأكد أنّها منبعثة من شقتها. هاتفوا الدفاع المدني الذي هرع رجاله إلى البناية، وقد كسروا الباب، ليكتشفوا الجثة المنتفخة ملقاة على الأرض. أفاد التقرير الشرعي بأنّ السيدة فارقت الحياة منذ أسبوع على أقل تقدير، وقد عثر على عشرات الصور القديمة منثورة حولها. ارتفعت التكبيرات فيما كانوا يخرجون بالجثة مغطّاة بالكامل فوق حمّالة، وسط ذعر الجيران وصدمتهم وخجلهم، كما جاء في تقرير الطبّ الشرعي أنّ قلب المرأة توقف، لعلّه بسبب الحزن الشديد.