المريض الفرنسي
أزمة سياسية حادّة تعصف بفرنسا بسبب فوز اليمين المُتطرّف بالنسبة الأكبر من المقاعد المُخصّصة لها في البرلمان الأوروبي. وفي أول ردّة فعل، سارع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى حلّ البرلمان الفرنسي، والدعوة إلى انتخابات تشريعية مُبكّرة في نهاية شهر يونيو/ حزيران الحالي، بهدف خلط الأوراق، واستعادة زمام المبادرة، عن طريق تشكيل تحالف سياسي عريض، يضمّ القوى السياسية التي تقف في الضفّة السياسية الأخرى، وتلتقي عند هدف بناء حاجز في وجه التقدّم المُتسارع للتيّارات اليمينية المُتطرّفة. ومع أنّ فرنسا تشهد نموّ ظاهرة التطرّف منذ عقود عدّة، فإنّ هذه الظاهرة لم يسبق أن تمدّدت إلى هذا القدر، إذ باتت تُنذر بتغيير اتجاه الحياة السياسية.
وكان لافتاً خلال الحملة الانتخابية الأوروبية الانفلات غير المسبوق في خطاب الدعاية، الذي تجاوز قواعد العملية الانتخابية إلى التحريض والتمييز على أساس عرقي وديني، وأصبح هذا الخطاب رائجاً، أخيراً، بعد أن توفّرت له منابر إعلامية، تحظى بأعلى نسبة مشاهدات مثل قناة "سي نيوز" التلفزية المملوكة من رجل الأعمال فانسان بولوريه، التي تحوّلت منصّةً مفتوحة موجهة ضدّ المهاجرين العرب والمسلمين وللدفاع عن إسرائيل.
بات الاستثمار في اليمين المُتطرّف مربحاً بعدما أصبحت مارين لوبان الزعيمة الوريثة لهذا التيّار عن والدها جان ماري لوبان، الذي دانه القضاء الفرنسي بتهم معاداة السامية وإنكار الهولوكوست. وحتّى تُفتح الأبواب أمامها خارجياً، من موسكو إلى القاهرة وبيروت وتل أبيب، أجرت مراجعةً أساسها إدانة ماضي والدها، وتبرّأت من خطّه الفكري النازي، واختارت محاربة الهجرة برنامجاً لوراثة النظام السياسي القديم، الذي قام على أساس التداول بين اليسار الاشتراكي واليمين التقليدي ويمين الوسط، وقد حانت اللحظة بوجود رئيس (ماكرون) لا يمتلك أكثرية برلمانية، ورغم أنّه فاز بولايتَين رئاسيتَين، وكان يطمح إلى أن يصبح قائد أوروبا، فإنّه جسّد فشلاً ذريعاً في مستوى تقديم بديل سياسي انتقالي، يمنع وقوع البلد في هاوية التطرّف. وارتكب خطأً كبيراً عندما وضع لنفسه هدف تكسير الحزبَين الكبيرَين، واستقطاب أفضل الكفاءات من أجل بناء حزبه السياسي، الذي لم يحصل على أكثرية نيابية تمكّنه من الحكم بارتياح، وبذلك، أسدى خدمة لتيّارات اليمين المُتطرّف التي عملت على ملء الفراغ السياسي الذي خلّفه الحزبان التقليديان. واللافت أنّه تساهل، رسمياً، تجاه الظاهرة العنصرية، وتماهى مع خطابها في ما يخصّ الهجرة والإسلام.
ما كان مستبعداً جدّاً في وصول اليمين المُتطرّف إلى الحكم في فرنسا صار ممكناً، وتشكّل الانتخابات التشريعية في نهاية الشهر الحالي (يونيو/ حزيران) معركة فاصلة، ليس في مستوى فرنسا فحسب، بل على صعيد أوروبا، وعلاقتها مع بلدان الهجرة العربية. وتبدو فرنسا سائرةً إلى توتّرات داخلية بسبب التصعيد في الخطاب العنصري، حتّى إنّ ماكرون نفسه حذّر من مخاطره على السلم الأهلي، وهناك من لا يتردّد في رسم سيناريوهات لحرب أهلية، كما هو حال الكاتب الشهير ميشيل أونفري. ومن المرجّح أنّ الأمر لن يصل إلى هذا الحدّ، لكنّ الوضع لن يعود إلى ما كان عليه قبل جولة الانتخابات الأوروبية. وفي حال وصول حزب التجمّع الوطني برئاسة لوبان إلى رئاسة الحكومة الفرنسية في غضون أقل من شهر، فإنّ فرنسا مُرشّحة للدخول في نفق بسبب التطرّف اليميني، الذي لا يملك مشروعاً للحكم، بل آلة جهنمية لتوليد العنصرية والفوضى والديماغوجية والكراهية.
لم تعد فرنسا، اليوم، بلد العقلانية والمنطق، وما تعيشه ليس أزمة عابرة، بل حالة مَرَضيّة نتيجة الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، التي وجدت متنفّسها من خلال الجنوح نحو التطرّف والعنصرية وكراهية الأجانب، ما يقود إلى أوضاع مضطربة وغير مستقرّة، يخسر فيها البلد اقتصادياً وسياسياً، وفي مستوى الحضور والدور والصورة.