المصعد الذي لا يصعد
توفيت قبل أيام العالمة المصرية سميرة عزت أبو الخير، إثر حادثة سقوط مصعد في مقرّ عملها حيث تحرّك المصعد، من دون إغلاق الباب فسقطت، وأصيبت بتهشّم في الجمجمة أدّى إلى وفاتها في الحال. جرى استجواب فني صيانة المصعد الخاص بمركز الأبحاث التابع لشركة الأدوية الخاصة، حيث تعمل العالمة الراحلة، الذي تصادف وجوده في مكان الحادث، فأكد محاولته منع تحرّك المصعد، لكنّه فشل في ذلك.
والعالمة المصرية الراحلة في هذا الحادث الأليم المفاجئ والصادم كانت قد اختارتها شركة أدوية خاصة لإدارة أول مركز مصري خاص للأبحاث الإكلينيكية، ما يؤكّد مدى جدّيتها ونبوغها في مجال الطب والبحث العلمي، إذ كانت أحد المشرفين على تطوير اللقاح المصري المضادّ لكورونا "إيجي فاكس". وقد وصل اللقاح إلى مرحلة التجارب السريرية على المتطوعين، وكان العمل جارياً على تطويره بالتعاون بين الشركة الخاصة ووزارتي الزراعة والتعليم العالي في مصر.
كان من الممكن أن تستمر العالمة الراحلة في أبحاثها، لولا حادثة المصعد. وربما هناك من سيذهب إلى الادعاء أنّ حادثة وفاتها مدبّرة، مثل حوادث كثيرة دبّرت لاغتيال علماء وعالمات عرب بسبب أبحاثهم المهمة التي كانوا يعكفون عليها. وربما هناك من سيكتفي بالقول إنّ الحادثة قضاء وقدر. وسيذهب فريق ثالث إلى اتهام شركة الأدوية بإهمال صيانة المصاعد. وفي النهاية، حين تقع على هذا الخبر، سوف تتأكد مخاوفك وتزداد، تلك المخاوف التي تصاحبك منذ صغرك، وقبل أن تخرج من مدينتك الصغيرة وتستقل أول مصعد في حياتك، وقد كان مصعداً قديماً متهالكاً بالفعل، وذلك في مؤسّسة حكومية مصرية، وقد تأكّدت وقتها مخاوفك، وبأنّك قد تموت في حادثة سقوط مصعد أو في حادثة اختناق داخل آخر، واسترجعت في ذاكرتك أحداث فيلم كوميدي قديم تحفظ أحداثه كلها داخل مصعد معلق بين السماء والأرض، وعنوان الفيلم يحمل الوصف السابق بالتحديد.
وأخيراً، أصبحتُ من قاطني البنايات ذات الطوابق العليا التي توجب عليّ استخدام المصعد، لكي أصل إلى الطابق الذي أقطن فيه. تركت البيت من طابقين الذي لم يكن بحاجة إلى مصعد، وكنت أحفظ درجات سلّمه عن ظهر قلب، إلى درجة أنني أستخدمها في الظلام من دون مساعدة الإضاءة الخفيفة، حتى لو كانت إضاءة هاتفي النقال، كما يفعل معظم الناس، وفي ظل أزمة الكهرباء التي نعيشها في غزة منذ سنوات طويلة. لكني اليوم بدأت فصولاً من المعاناة من العيش في بنايةٍ يمكن القول إنّ شريان حياتها هو المصعد الكهربائي. ولذلك لم تتبدّد مخاوفي كلما استخدمته. وفي كلّ مرة كان يهبط بي أو يصعد، كنت أضع سيناريو محتملاً لحادثة موتي المحققة، نتيجة تعطّله واختناقي وحيدة في داخله. ومما زاد من ذلك الخيال البشع أنّني لم أصادف مرافقاً واحداً يصحبني في المصعد، منذ أصبحت من سكان هذه البناية، وكأنّ هذه البناية تخلو من السكان أصلاً، رغم أنّني دائماً أسمع صوت فتح وإغلاق أبواب الشقق الصغيرة المصفوفة في طوابق البناية، لكنّي، منذ ما يقارب العام، لم أصادف جاراً أو جارة وهذا عجيب، وكأني أسمع أصوات الحياة في هذه البناية ولا أراها.
ربما يدبّر لي هذا المصعد مكيدة أو مفاجأة أو أي قصة قد أكتبها ذات يوم، مثل أن أفتح بابه فأجد جثة لفظ صاحبها أنفاسه الأخيرة للتو، أو أن أجد حقيبة سوداء تنظر إليّ في صمتٍ مريب. ولذلك، في كلّ مرة أستقل فيها المصعد أكون مستعدّة للتوقعات، ووجيب قلبي يسابق صوته الرتيب، ويخطر لي اسم أبو المصاعد، كما يلقب إليشا أوتيسا، المخترع الفعلي لمصعد الركاب الذي يعمل بالكابلات، لكن كانت لديه رافعة أمان كتطوير لاختراع سابق لمصعدٍ تسبّب في موت كثيرين، وأتساءل بيني وبين نفسي: هل هناك رافعة أمان توقف المصعد قبل سقوطه ببضع بوصات على الأرض؟