المنطقة وحرب المخدرات
يثير ملفّ انتشار تجارة المخدرات قلقاً في لبنان وسورية ومنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، حيث تجري ملاحقة تجّار المادة ومروّجيها في لبنان الذي يعتبر بوابة هذه التجارة، وأحد اللاعبين الرئيسين في تهريب مخدّر اصطناعي يسمّى الكبتاغون، ما بين سورية الخاضعة لعقوباتٍ ودول الخليج العربي بوصفها سوقاً استهلاكية. والأخطر أن كارتيلات عديدة تتمتع بحماية العشائر والمليشيات، وحتى بعض الألوية العسكرية في صفوف النظام السوري، وصولاً إلى الجماعات المتشدّدة في البادية السورية.
انقضى أكثر من شهر على مهاجمة الجيش اللبناني كبير تجّار الممنوعات "أبو سلة"، علي منذر زعيتر، في عمليةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ في بعلبك، أوقعت قتيلاً من الجيش وجرحى، فرّ فيها بارون "كابتن كوراج"، أو "أبو هلالين"، أو "كابتي" (الاسم الدلع)، ولا يزال متوارياً عن الأنظار، فيما ترجّح مصادر أمنيةٌ وعسكريةٌ أن يكون نجح في العبور إلى سورية عبر معبرٍ غير شرعي، وهو متوارٍ في البادية السورية.
تجربة مأساوية أن يتحوّل تجّار المادة إلى أسيادٍ مطلقين لمناطق عديدة، وتدور حكايات ونوادر كثيرة عن الشقّة التي كان يسكنها "أبو سلة" في منطقة سن الفيل/ الدكوانة، أقام فيها سنواتٍ، وطوّر مجموعة كبيرة من علاقاته، نشاطاته غير الشرعية، وزاد عدد زوّاره وبسرعة من دون ضوضاء. يرمي سلة القتل من الطبقة العليا لشقته، ويتلقّى أموالاً باهظة، تحوّل معها من شخصٍ عادي، وهزيل، إلى بارون من أسياد التجارة والإثراء غير الشرعي.
تجري حرب المخدّرات بموازاة استمرار الحرب في سورية، وفي ظلّ فوضى عدم الاستقرار السياسي والأمني في لبنان، تواجهها القوى النظامية من دون نجاحاتٍ حاسمة، في مواجهة عصاباتٍ ومليشيات مسلحة/ منظّمة، استخدمت فيها أخيراً على الحدود السورية الأردنية الأسلحة المتوسّطة والثقيلة، وأدّت إلى وقوع إصاباتٍ عديدةٍ في صفوف المهرّبين!
لبنان شهد زيادة حادة في صناعة الكبتاغون التي تحقّق مداخيل مالية ضخمة، تقدر ما بين 600 مليون إلى مليار دولار سنوياً
لبنان شهد زيادة حادّة في صناعة الكبتاغون التي تحقّق مداخيل مالية ضخمة، تقدر ما بين 600 مليون إلى مليار دولار سنوياً، ومصالح الأمن تعمل لاحتوائها، ولكنها باتت عاجزةً أمام ظاهرةٍ عابرة للحدود، على الرغم من الإجراءات التي يعلن عنها، مثل اكتشاف شاحناتٍ كبيرةٍ محمّلة بآلاف الأطنان، واكتشاف تسعة ملايين قرص كبتاغون مخبأة في البرتقال، وأساليب مبتكرةٍ في التمويه ترقى إلى مستوى الفنون السوريالية يجري تتّبعها، إلا أن هذه النتائج تبقى ضعيفةً مقارنةً بحجم تجارة المخدّرات، والصناعة الهائلة في المناطق الموالية للنظام السوري، والتي تتقاطع أحياناً مع ضبط شحنات أسلحةٍ مهرّبةٍ إلى اليمن في بحر عُمان. لا تبدو الوسائل العسكرية الكلاسيكية وحدَها كفيلةً بالقضاء على هذه التجارة التي صارت لها كارتيلات كبيرة، تتفاعل بتواصليةٍ في غير دولةٍ في المنطقة، ولا تبدو الخطط الأمنية المحلية مؤثّرة كثيراً بها، ذلك أنّ إرادة أنظمةٍ بالحصول على نتائج مالية وأرباح كبرى بالدولارات أعطت هذه الجماعات مكانةً وشهرة. وقد بدأت ظاهرة التصدير هذه توّلد قلقاً دولياً من دولة "الكوكايين والكبتاغون" تلك. وأطلقت الولايات المتحدة برنامج الأسطول الخامس في البحرية الأميركية والقوات البحرية المشتركة، مع تزايد عمليات ضبط الشحنات غير المشروعة إلى حد كبير في الشرق الأوسط. ضُبطت مخدّرات تجاوزت قيمتها 189 مليون دولار في عمليات نفذت بالقرب من الخليج العربي. ويشكّل هذا رقماً قياسياً بالنسبة للمهام المشتركة، التي ضبطت 6550 كيلوغراماً من الهيرويين، 4052 كيلوغراماً من الميثامفتاين، 56834 كيلوغراماً من الحشيش.
وقد تحوّلت سورية، بعد الإجراءات المتشدّدة في لبنان، إلى مركز مرور لمخدّرات الكبتاغون في الشرق الأوسط، وبؤرة صناعية تغذّيها الحرب، جعلتها المنتج الرئيسي للمخدّر في العالم. فهي تجارة تسمح للنظام السوري ولحلفائه في إيران بمقاومة العقوبات الدولية. أصبح اقتصاد هذه المادّة مزدهراً، وتحوّل من إنتاج محدود قبل سنوات إلى صناعةٍ هائلةٍ في المناطق الموالية لحزب الله والنظام السوري. تسبّب الاقتصاد الضعيف ما بعد الحرب، ووجود مؤسّسات فاشلة وسلطات متواطئة، إلى جانب أنّ لإنتاج العقار مبرّر عقائدي موجّه للتصدير إلى الخصوم التاريخيين في الخارج. لكن الفترة الأخيرة أظهرت ما يشكّل استهلاكاً محلياً متزايداً، خصوصا بين صفوف السجناء في لبنان والطلاب الجامعيين ومخيمات اللاجئين. تجربة مأساوية أنّ النضال ضد جماعات التهريب هو النضال ضد المليشيات، ولا بل مع أطراف منظمّة ضمن شبكاتٍ غير رسميةٍ تجمع تجاراً وسياسيين ورجال أمن، وموظفي دولة، تتفاعل بقوة مع التجارة، وتستخدم حماياتٍ أمنية لتهريبها. إنها شكل من الحرب الأهلية التي لا تقترب من نهايتها، ومستمرّة في حاضر فوضوي، في بيئة عمليات قتل وجريمة وسرقة، تسجّل أرقاماً مرتفعة يومياً. توازنٌ صعبٌ بين قوه التجار والصناعيين، وبين حلول وسط مع الكارتيلات، لاستتباب الأوضاع السياسية والأمنية. مع العلم أن برلمان لبنان أقرّ عام 2021 قانوناً (من دون مراسيم تطبيقية) شرّع زراعة "القنب الهندي" (الحشيش) للاستعمالين، الطبي والصناعي، محاولاً الوقوع في صيغة التعايش تلك، ما يضع حدّاً لصناعة الكبتاغون. لكن الأمور أكثر تعقيداً، فكولومبيا منذ عشرين عاما خسرت الحرب على المخدرات.
أصبح اقتصاد هذه المادّة مزدهراً، وتحوّل إلى صناعة هائلة في المناطق الموالية لحزب الله والنظام السوري
تبدو المنطقة بحاجةٍ إلى ما يشبه "خطة كولومبيا"، في إطار تعبئة أمنية مشتركة، إقليمية ودولية، على غرار مساعدة واشنطن الرئيس الكولومبي، أندري باسترانا، بقيمة 1.8 مليار دولار لمواجهة تجارة المخدرات، وعلى غرار ما تقوم به القوات البحرية الأميركية، التي خصّصت نحو خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلوماتٍ عن الجمعيات الإرهابية والمهرّبة للمخدّرات. يستدعي الأمر مبادرة الدول الاقليمية، التي تعاني من عمليات التهريب إلى التعاون أكثر، لفكفكة إدارة العلاقات بين الكارتيلات المستترّة، والتي صارت أكثر ثراءً وسطوةً من أي وقتٍ مضى، لجهة توزّعها على فسيفساء شديدة التعقيد بين، أوروبا، أفريقيا، والشرق الأوسط. في لبنان تحطّ هذه الصناعة أزمة فعلية، وتركيبة الفلتان الأمني تعقد الأمور أكثر وأكثر مع الدول العربية الشقيقة. الجهود التي تبذلها القوى العسكرية والأمنية إلى هذا الحد أو ذاك لزعزعة توزّع التجار الجغرافي في مناطق آمنة، غير كافية. هذا يجعل الأمور صعبة كفاية، أضف الى ذلك ممرّات التهريب، والأسواق المفتوحة واستراتيجية التوزيع. ومن السخرية أن تكون لهذه المادّة مناطق مرغوبة وآليات قوة العقيدة أحيانا في مواجهة الخصم، ولها حصّة مهمة من مسوّغات حرب التجارة الإجمالية للمليشيات، كثقافة الممنوعات.
الخشية أن تدخل هذه الصناعة للموت بطريقة عمودية، ولا ندري كم هو عدد مصانعها (يُخشى أن تصير جزءاً من النسيج الاجتماعي اللبناني الحديث)، ولا عدد العاملين فيها، وتندرج هذه النشاطات في قلب الفوضى السياسية، والتحوّل الديمقراطي والعنف السياسي، إلى درجة أن اسمها صار مرتبطا في المناطق التي تشهد نزاعات بالاقتصاد السياسي للمخدّرات، على غرار دول المخدّرات المكسيكية.