المواقف التونسية من الحدث السوري
ليس بالبعيد زمنياً، إعادة العلاقات التونسية السورية، وتبادل السفراء بين دمشق وتونس بعد قطيعة وتدنٍّ في التمثيلية الدبلوماسية عقداً أو يزيد. قرار الرئيس قيس سعيّد تعيين سفير تونسي جديد بدمشق، واستقباله يوم 27 إبريل/ نيسان 2023 في قصر قرطاج لأداء القسم والشروع في مزاولة مهامه، كان مقدّمة لما ذكره أمام القمّة العربية في الرياض، يوم 19 مايو/ أيار 2023. جاء في تلك الكلمة: "ونحمد الله على عودة سورية، على عودة الجمهورية العربية السورية إلى أحضان جامعة الدول العربية بعد إحباط المؤامرة التي كانت تهدف إلى تفتيتها وتقسيمها، ودفع الشعب العربي السوري الثمن غالياً حتّى تبقى سورية واحدة". وعلى هامش القمّة، التقى سعيّد نظيره السوري بشّار الأسد، وصرّح الأخير للتلفزيون الوطني التونسي قائلاً: "إن الثورة التونسية لسنة 2011 هي مصدر التآمر على سورية"، من دون أيّ ردّ فعلٍ من الرئيس سعيّد.
كان سعيّد يعتقد أنّ عودة سورية إلى جامعة الدول العربية، والقبول بمشاركة رئيسها في القمم العربية، على قاعدة اتفاقيات بكّين الإيرانية السعودية المُعلَنة يوم 10 مارس/ آذار 2023، نهائية، وأنّ القبول الرسمي العربي بالنظام السوري ستتلوه إعادة إدماج دولي للأسد ونظامه، وهو ما سفّهته الوقائع والتحوّلات الجيوسياسية السريعة والمُتواترة الناتجة من الحرب الروسية الأوكرانية والغرق الروسي في وحلها، وطوفان الأقصى والعدوان الصهيوني على غزّة ولبنان، والرد العسكري الإيراني على اغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، وتصفية الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في بيروت، وما تلاهما من اعتداءٍ صهيوني على المنشآت العسكرية الإيرانية، والفوز الساحق لدونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، المُبشّر، تهديداً، بتبديل خريطة الشرق الأوسط برمّتها.
قبل هروب الأسد وبعده
وعلى هذه الأرضية من الرمال المتحرّكة، صيغ الموقف الرسمي التونسي من الهجوم المسلّح للفصائل السورية، المدعومة تركياً، وهي مجموعاتٌ لا تُخفي تشدّدها الديني وطبيعتها التكفيرية وتاريخها القتالي، وانتماء بعضها إلى تنظيماتِ القاعدة وداعش وجبهة النصرة، ومنها ما هو موضوع على لائحة التنظيمات الإرهابية من الإدارة الأميركية. وهو هجوم استهدف المدن والحواضر الخاضعة لإمرة السلطات السورية، التي تهاوت تباعاً بدءاً بمدينة حلب ثم حماة فحمص، قبل الوصول إلى دمشق. فقد جاء في بلاغ (بيان) وزارة الخارجية التونسية في 5 ديسمبر/ كانون الأول الجاري: "تُندّد تونس بشدّة بالهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سورية في المدّة الأخيرة. وتعرب الجمهورية التونسية عن تضامنها التام مع الجمهورية العربية السورية، وتدعو المجموعة الدولية إلى مساندة هذا البلد الشقيق حتى يحافظ على سيادته وأمن شعبه واستقراره ووحدة أراضيه".
أظهر هذا البيان، بوضوح، قصور السياسة الخارجية التونسية عن تتبّع مجريات الأحداث إقليمياً ودولياً، وبيّن ضعف الدبلوماسية التونسية وقدرتها على النفاذ إلى مراكز القرار الدولي، والحصول على المعلومات التي تُمكّن السلطات التونسية من بناء مواقفها بما يتناسب مع ما يقع الإعداد له في كواليس ومطابخ السياسة للقوى الكبرى والحكومات الفاعلة والمؤثّرة دولياً. ففي وقتٍ عرفت فيه مدن الشمال السورية انطلاق العمليات المسلّحة، كان القرار إزاحة عائلة الأسد من حكم سورية، فحاولت وزارة الخارجية التونسية تدارك قصورها الدبلوماسي بإصدار بيان ثانٍ، يوماً واحداً بعد سقوط دمشق وانهيار النظام السوري وهروب رئيسه، بشّار الأسد، إلى روسيا، معتبرةً أنّ "النظام السياسي شأن سوري خالص يختاره الشعب السوري صاحب السيادة، فهو وحده الذي له الحقّ في تقرير مصيره بنفسه بمنأى عن أي شكل من أشكال التدخل الخارجي"، وداعيةً "كافة الأطراف السورية إلى التلاحم وتغليب المصلحة العليا للبلاد من أجل الحفاظ على أمن الوطن واستقلاله وسلامته واستقراره وتأمين انتقال سياسي سلمي يحفظ الدولة واستمراريتها ويُلبّي تطلّعات الشعب السوري وحده".
تمنّى التونسيون أن يكون مصير الأسد شبيهاً بما انتهى إليه الرئيس العراقي صدام أو القذافي
وبهذا الموقف تكون الخارجية التونسية قد تملّصت مما جاء في بيانها السابق الذي وصف هجوم الفصائل المسلّحة بالهجمات الإرهابية، فتلك الفصائل هي نفسها التي سمّاها البيان الثاني "الأطراف السورية"، ودعاها إلى "التلاحم وتغليب المصلحة العليا للبلاد"، وترجمت السلطات التونسية حسن نياتها وإقرارها بانهيار حكم بشّار الأسد واعترافها بالنظام السوري الجديد بالسماح للسفارة السورية بتونس، التي أعلنت ولاءها للنظام الجديد، رفع الراية المُعتمدة من حكّام سورية الجدد، التي كانت تعتمدها الفصائل والمعارضات السورية بدلاً من العلم التقليدي القديم.
نخب تونسية مع الأسد
لم يقتصر الارتباك في التعامل مع الزلزال السياسي السوري على السلطات الرسمية، بل طاول مختلف النخب السياسية والمدنية التونسية. القوى والتيارات العروبية الناصرية والماركسية والدستورية والنقابية التي التقى ممثلوها ونوابها وقادتها بشّار الأسد ضمن وفود برلمانية (وفد الجبهة الشعبية ونداء تونس سنة 2017) وغير برلمانية (مجموعة من الإعلاميين سنة 2016 وفد الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 2017) أصابها الذهول من هروب بشّار الأسد وانهيار نظام الحكم، فمنهم من لم يصدّق ما جرى، وكان يبشّر، قبل أيّام قليلة، بأنّ تحرير المدن السورية الشمالية آتٍ لا ريب فيه بقيادة الأسد الابن وصلابة الجيش العربي السوري، وأنّ محور المقاومة والممانعة منتصرٌ لا محالة، والأيّام ستثبت ذلك، ومنهم من يمنّي النفس بخبر تتناقله وسائل الإعلام أنّ الرجل اغتيل في منفاه الذي اختاره لنفسه في بلاد الجليد الروسي، حتى يستحيل بطلاً قومياً ورمزاً للتضحية والشهادة.
غاب عن تلك القوى التي تتعامل مع نظام الأسد بمعايير تونسية صرفة، لا دراية لها بالواقع السوري وخصوصياته، أنّ شرعية المقاومة والممانعة التي استند إليها بشّار الأسد ونظامه كانت تُخفي هشاشة داخلية، قوامها انعدام المشروعية الشعبية الناتج من بشاعة إرث القمع والاستبداد الطويلين، وتصفية عشرات آلاف من الخصوم السياسيين والأيديولوجيين والنشطاء المدنيين، منهم قوميون عرب ناصريون وبعثيون وقوميون سوريون ويساريون ماركسيون وإسلاميون ونقابيون وآخرون منتمون إلى الفصائل الفلسطينية، وتهجير ملايين السوريين من بلدهم وتحويلهم إلى مادة للإتجار بالبشر، ولاجئين أو مشرّدين يستعطفون الخيّرين في عواصم العالم ومدنه، كذلك لم تنتبه القوى التونسية إلى رغبة السوريين الجامحة في التغيير وتخليص بلادهم من حكم سلالة الأسد الذي دام 53 سنة.
انهيار حكم بشّار الأسد يعود بصفةٍ رئيسية إلى انعدام الحاضنة الشعبية وكره السوريين الشديد لنظام الحاكم وللأسد وعائلته
أثبتت الوقائع المتسارعة أنّ انهيار حكم بشّار الأسد لا يعود إلى الدور الذي لعبته المعارضات المسلّحة والتنكّر الإيراني والروسي لحليفهم التقليدي فقط، بل يعود بصفةٍ رئيسية إلى انعدام الحاضنة الشعبية وكره السوريين الشديد لنظام الحاكم وللأسد وعائلته، لأسباب عدّة، منها ما يتعلّق بطبيعة النظام القمعية، وما صاحبها من تعذيب وسجون ومعتقلات وتصفيات، تحاكي ما كان يحدث في القرون الوسطى، يبدو أنّ السوريين كانوا يعيشونها ويعرفون تفاصيلها، قبل كشف حقائقها على إثر فتح السجون السورية، وبخاصّة سجن صيدنايا، وتحرير ضحاياها، بينما لا تعرف عنها شيئاً التيارات العروبية واليسارية والدستورية والنقابية والمدنية المؤيّدة للأسد ونظام حكمه من خارج سورية، ومنها ما يتعلّق بالاستيلاء على الثروات السورية من عائلة الأسد وأخواله وأصهاره، وظهور أوليغارشيا تتحكّم في السياسة والاقتصاد السوريين شبيهة بعائلة الطرابلسي التي كانت تلقى حماية نظام زين العابدين بن علي.
المواقف الشعبية في تونس من هروب الأسد عكستها مناقشات الجلسات والمنتديات الشعبية وانتشرت بمواقع التواصل الاجتماعي وبخاصّة صفحات فيسبوك ومقاطع منصّة تيك توك، عاكسةً بدورها خيبة الأمل وحجم الهول من هروب بشار الأسد الذي اختار أن ينجو بنفسه، تاركاً بلده وشعبه في حالة انهيار دون أدنى تحمّل للمسؤولية، وهو من يدير دفّة الحكم منذ ربع قرن، بعد أن ورثه عن والده الذي حكم بدوره 30 سنة، ومما كشفت عنه السجون السورية من مآسٍ تُدمى لها القلوب ومن سرديات التعذيب والتصفية على الهوية السياسية وغير السياسية يستدعي توثيقها آلاف المجلدات والأشرطة التلفزيونية والسينمائية.
مشاعر تونسية عامة
كم تمنّى التونسيون، لنزعتهم العروبية الغالبة ومحافظتهم الدينية البيّنة، وعشقهم فلسطين وأرضها المقدّسة ومسجدها الأقصى المبارك، أن يكون مصير بشّار الأسد شبيهاً بما انتهى إليه الرئيس العراقي صدام حسين، حين قاتل القوات الأميركية إلى حين إعدامه شنقاً، وبمعمّر القذافي الذي رفض مغادرة ليبيا، رغم عروض جاءته من روسيا ومن غيرها وقاتل قوات حلف الناتو حتى النهاية. وكم تمنوا كذلك أن يشعل الأسد حرباً ضروساً ضدّ الكيان الصهيوني، ويلقى ربه شهيداً من أجل قضية فلسطين، أنبل القضايا وأعدلها، لكنه اختار ترك البلاد والهروب، من دون حتى تحرير بيان استقالة، وتكليف من ينوبه وتفويض سلطاته العسكرية، حتى لا يبقى الجيش السوري يتيماً دون قيادة تنظّمه، وتصدر له الأوامر. كذلك ترك ترسانة من الأسلحة والمنشآت العسكرية دفع ثمنها المواطن السوري من قوته وقوت أبنائه لقمة سائغة أمام الجيش الصهيوني وجيوش القوى الإقليمية والتنظيمات المحلية لتدميرها أو الاستيلاء عليها.
أنظمة عربية أخرى لن تكون في منأى عن شظايا الزلزال السوري وآثاره
لن يتغيّر شيء مما رسخ في الوعي الجمعي التونسي والعربي عموماً من جبن بشّار الأسد وخيانته الأمانة بعد فراره إلى روسيا، ومن أنه فوّت على النخب السورية فرصة نقل السلطة سلمياً لكي لا تنهار الدولة السورية ومؤسّساتها، فقد كان بالإمكان التخطيط لمغادرة كرسي الحكم بهدوء، لكنه اعتقد أنّ ملكه الجمهوري أزلي، ولن يزول أبداً.
ولن يفيد في شيء النعوت والوصم بالعمالة للكيان الصهيوني أو للولايات المتحدة وبعض القوى الإقليمية، التي تصف به بعض القوى السياسية والنخب الإعلامية التونسية موجة الانعتاق السورية الجديدة، وخروج ملايين السوريين إلى الشوارع والساحات محتفلين بنهاية حكم سلالة الأسد، فما تعيشه سورية اليوم نتيجة مباشرة لسياسات بشار الأسد الفاشلة، ولمراهنة نظامه على حماية الروس والإيرانيين الذين غلّبوا، في آخر المطاف، في مفاوضاتهم السرية، مصالحهم الوطنية والقومية وضحّوا بالأسد وبسورية كاملة.
يشعر السوريون اليوم بأنهم أحرار، وهو الشعور نفسه الذي عاشه التونسيون سنة 2011 بعد سقوط نظام بن علي، ولا أحد يملك حقّ تنغيص حياتهم وتلقينهم الدروس. الدرس الأكبر تعلموه من تجربتهم أن لا وطنية ولا مقاومة مع القمع والاستبداد والتعذيب والتنكيل واحتكار السلطة نصف قرن من الأب وابنه، ومن لا يحضنه ويحميه شعبه لا حاضن له ولا حامي مهما بلغت شوكته واشتدّت قوّته، وكما هبّت رياح الثورة التونسية على سورية سنة 2011، وكُتمَت أصوات السوريين بالحديد والنار، إلى أن أحرقت النيران النظام السوري، وحوّلته إلى رماد سنة 2024، فإنّ أنظمة عربية أخرى لن تكون في منأى عن شظايا الزلزال السوري وآثاره المدمّرة.