الميت الحيّ في غزّة

02 أكتوبر 2024

(مو باعلا)

+ الخط -

ربّما كانت أولى خبراتي بالموت هي تجربة موت جدّتي لأمّي، التي كنت ربيبتها. ولشدّة حبّي لها صدّقت الإشاعات التي كانت تروّجها النساء المتّشحات بالسواد في بيت العزاء. وفي المساء، وحين ينفضّ مجلسهن، تعود أمّي لتداول تلك الإشاعات مع خالتي، وتنامان والدموع في وجهيهما، وتتركاني أفكّر وأحملق في السقف، وأتشمّم رائحة غرفة جدّتي، وأتخيّلها قد دفنت حيّةً، وكيف سيكون حالها حين تستيقظ وتجد نفسَها في حفرةٍ مظلمةٍ وضيّقةٍ.
تحدّثت النساء في بيت عزاء جدّتي كثيراً عن موتى دفنوا وهم أحياء، فهناك امرأة حامل دفنت ولم تكن قد ماتت فعلاً، ولكنّها أصيبت بحالة إغماء، وظنّ الجميع أنّها ماتت، حتّى سمع حارسُ المقبرةِ صوتَ بكاءِ وليدٍ في ليلة دفنها، فأسرع إلى القبر وقام بفتحه فوجد المرأة قد اعتدلت من نومتها لترضع صغيرها. ورغم سذاجة الرواية، إلّا أنّها ظلّت متداولةً، وبقيتُ أُفكّر كلّ ليلةٍ، بدءاً من الليلة الأولى لموتها، بأنّ جدّتي الحبيبة لم تمت، وأنهم تعجّلوا دفنها، وقرَّرتُ بيني وبين نفسي أن أذهب إلى القبر وأقف إلى جواره، وأستمع جيّداً لما قد يصدر منه. وقد فعلت ذلك أثناء عودتي من المدرسة ذات ظهيرة، وحين خَلَت الطريق إلى المقبرة، وكانت المقبرة ذاتها صامتةً وموحشةً، وعرجتُ على قبر جدّتي الذي لم يبنَ بالحجر بعد، ووقفت عند موضع القدمَين وأرهفت السمع، ولكنّي لم أسمع شيئاً. وبقيت على حالي حتّى نال مني التعب، فجلست، ثم نال مني أكثر فنمت، ولم أستيقظ إلّا على صوت جدّي وهو يلكزني، وحوله أصواتٌ أعرفها لأشخاصٍ قد تعبوا في البحث عنّي.
مرّت الأيام ولم أنسَ تأنيب أمّي وأبي لأنّي جازفت بالذهاب إلى المقبرة البعيدة وحدي، وظلّ لدي اتّهام صامت نحو الجميع بأنّهم قد تعجّلوا دفن جدّتي التي أُحبُّها، حتّى كبرت وعرفت أنّني تمسكّت بهذه الإشاعة لشدّة حبّي لها، ولم تتوقّف مثل هذه الإشاعات التي كنت أسمعها في صمت.
قبل أيّام، عادت تلك الذكرى المؤلمة إلى ذاكرتي، وشعرتُ بإحساس الأب الذي كان على وشك أن يدفن طفله، وهو يظنّ أنّه ميّت مثل باقي الموتى الذين سقطوا في أحداث مجزرة النصيرات أخيراً، ولكنّه في اللحظات الأخيرة لمح حركة ذراع طفله، فصرخ في لهفة: "لسه عايش"، وأسرع به المحيطون إلى المستشفى، وأُودِع هناك عدّة أيّام حتّى مات.
هذه القصّة المُحزِنة تركنكَ لحزن عميق، وقهر لا يوصف، وأنت تتخيّل شعور الأب وهو يتمسّك بالأمل في أنّ طفله سوف ينجو، وتتخيّل قلبَه يقفز قبل قدميه، ويهرول قبل ساقيه، ليحمل طفله إلى المستشفى، ويحيا بين الأمل والرجاء، إلى أن يخبوا، ويعود كي يدفن طفله ويدرج اسمه بين الأموات. ويعتصرك الحزن أكثر حين تسمع قصّةً أخرى أكثر وجعاً لأب مكلوم كان يتمسّك بخيط واهٍ من أمل، قد فقد أحد أطفاله بسبب مرض السرطان قبل عامَين، وفقد طفلتَين اثنتَين في شهر مارس/ آذار الماضي، أي خلال شهور هذه الحرب الطاحنة، وأصيب آخر الأبناء إصابةً بليغةً في رأسه، وأخبره الأطباء أنّه قد مات، فذهب كي يحفر له قبره، وحين عاد ليحمله ويواريه الثرى وجده جالساً باكيا بين الجثث، فهرع إليه وحمله إلى المستشفى ثانيةً، وهو يُردّد بصوت مرتجف للأطبّاء: "ابني لسه عايش". ولكنّ الأمل انتهى بعد أيام أيضاً، حين مات الطفل بعد إيداعه غرفة العناية المكثّفة، وعجز الأطبّاء عن إنقاذ حياته.
تعود ذكرى وفاة جدّتي وتلك الإشاعة التي جعلتني أخاطر بنفسي وأقتحم عالماً مخيفاً هو عالم المقابر، بكل ما تُحاك عنه من حوادثَ مرعبةٍ ما بين الخيال والحقيقة، تعود هذه الذكرى مع كثرة القصص التي تتردّد عن الموتى الأحياء، أو الأحياء الذين يموتون بعد إعلان أنّهم ما زالوا في قيد الحياة بقليل. وأتخيّل مشاعر ذويهم، وأتخيّل مشاعرهم هم أنفسهم لو استطاعوا التعبير عن فرحتهم بعودتهم إلى أحبّتهم، أو الخوف يقتلهم ثانيةً لأنّهم واثقون أنّهم سيرحلون بعد فسحةٍ من أملٍ أو من مزاحٍ ساخرٍ من الموت.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.