كان طفلاً كبيراً
لا أدري من أين أبدأ حكايته، من النهاية والفصل الأخير، حيث بلغتني أخبار مرضه، وأنّه يصارع الموت بسبب فشلٍ كلوي حادّ. وهذا على خلاف ما دأبتُ على سماعه من أخبار أهلي في غزّة، فكلّهم يموتون بسبب القصف بالقذائف والصواريخ، ويفعلون ذلك منذ نحو عام، أم أبدأ حكايته منذ عرفته في المخيم وكأنّه من لوازمه بأنّ هناك دائما "المبروك" الذي يعيش ويموت كطفل، فيتبارك اللاجئون به ويتشاءمون حين يغيب.
عندما بلغتني أخبار مرضه، استغربت من كمّ الرسائل التي تصل إليّ كلما تيسّرت خطوط اتصالات شبكة الإنترنت في جنوب القطاع من أقارب وجيران، وكلّهم يكتبون إلي بحزن وأسى عن مرضه، تخيّلوا أنهم يهتمون بإنسانٍ مريض، ويتمنّون له الشفاء، ويتضرّعون إلى الله أن يحدُث ذلك وكأنهم يتحدّون الموت الفاغر فمه، والذي يقطُر دماً، والمُحدق بهم من كل ناحية، ولكنهم، في هذه المرّة، يرونه مريضاً بمرض مثل كل الأمراض التي تصيب الأناس العاديين في كل أنحاء الأرض، وكأنّهم لا يصدّقون أن الناس قد يموتون بكامل أجسامهم، ولمرضٍ ما، من دون أن يتحوّلوا إلى أشلاء.
تخيّلتُ بؤسهم وقلّة حيلتهم، وهم يأملون الحياة لأحدهم، ويتوافدون على زيارته في المشفى، ويتتبعون أخباره، وتتطوّر حالته، ويكتبون إلي كل شيء بالتفصيل، ذلك التفصيل الذي لا يخلو من رجاء أن يعود ليمارس دوره في هذه الحياة، ليجلس في ذلك الركن الظليل، وكي يطمئنوا لوجوده، وكأنّ الحي لا يصبح حيّاً بدونه، والدار لن تكون داراً ما لم يقف طويلاً أمام بابها يتأمّل المارّة، ويلوح لهم ويناديهم بأسمائهم، وتستغرب كيف أنّه لا ينسى الأسماء حتى لو غاب أصحابها عنه نصف قرن.
عندما عرفتُه كنت طفلة لم تتجاوز الرابعة من عمرها في مخيم خانيونس، وكان يبدو طفلاً غير عادي، لأنه قد ترك المدرسة مبكّراً ولم يفلح في إتمام الصف الرابع، ورغم ذلك كان يجيد العدّ، ويحفظ الأرقام، ويحبّ كثيراً أن يردّد الأناشيد، ويلهو مع الصغار ويحنو عليهم. ومن هنا، نشأت بيني وبينه صداقة، حيث كان دائماً ينقذني من أن تنجرّ قدمي الصغيرة نحو الشارع القريب من بيتنا في غياب أمّي في عملها، حيث تعمل معلمة، وفي سهو طارئ من عيني جدّتي المرأة العجوز ثقيلة اللحم، والتي لم تكن تقوى على النهوض من مكانها، فكان يُسرع بإعادتي إلى حِجرها قبل أن تفتقد غيابي، ولذلك نشأت بيننا تلك العلاقة، وشعرتُ أنّه الحامي والمنقذ من محاولاتي لاكتشاف الحياة، بعيداً عن حدود مخيم خانيونس للاجئين.
في ساعات المساء، كانت النسوة في المخيم يجتمعن للسّمر عند جدّتي، وتأتي به أمّه إلى مجلسها باعتبارها أكبر نساء المخيم سنّاً، وأكثرهنّ خبرة، فتشكو لها إحداهن من زوجها المُسرف في تدخين الدخان العربي، فيما تشكو أخرى من تأخّر حملها، وتُلقي جدّتي بنصائحها ووصفاتها. وحين تقارب الجلسة على الانتهاء يأتي دوره بصفته "مبروك المخيم" لكي يخبر كل امرأة حامل تجلس في تثاقل حول جدّتي عن نوع جنينها القادم، وحين يتهلّل وجه إحداهن بأنّها ستأتي بولد تفضّ جدّتي الجلسة، وتطلب من المبروك أن يذهب إلى النوم باكراً قبل أن يخبر إحداهنّ بأنها ستضع أنثى، فيكون ختام جلسة السّمر محزناً وكئيباً.
شاءت الأقدار أن يصبح ذلك الطفل الكبير شقيق زوجي، وأن نعيش معاً في بيت واحد أكثر من ثلاثين سنة، فلعبنا سويّاً لعبة النساء الحوامل، إلى أن أُصبت بعدوى الخوف من العالم خارج أسوار البيت مثله، حتى جاءت الحرب، وأجبرتني على النزوح ثم السّفر بعيداً. أما هو فمثل كلّ أهل الحيّ، كتب عليه النزوح مرّة ثمّ أخرى، حتى داهمه المرض، وهو الذي لم يشتكِ مرضاً من قبل، وكأنّه يحتجّ على كل ما يحدُث حوله، حتى رحل في هدوء كما عاش في هدوء، كطفل كبير في عالم لا يُجيد الاحتفاظ بالأطفال.