الناتو والتوسّع نحو الشرق

30 يناير 2022
+ الخط -

تشكلت نواة حلف شمال الأطلسي (الناتو) باتفاق دونكيرك، الذي عقد بين فرنسا وبريطانيا في العام 1947 عقب إسدال الستار على الحرب العالمية الثانية، وكان هدف الحلف دفاعياً للوقوف في وجه أي هجوم ألماني أو سوفييتي. وعمليا، كانت ألمانيا تحت الاحتلال وغير قادرة على القيام بأي هجوم، إلى أن تم اقتسامها، فنال السوفييت ربعها، واستقلت ثلاثة أرباعها بوصايةٍ شبه كاملة من الغرب. وفي الواقع، كان السوفييت فقط القادرين على أي هجوم، وهم الخارجون للتو من انتصار ساحق كرّس نظريتهم السياسية، وفرضها على القسم الشرقي من أوروبا كله.

توسع الحلف بضم دول من شمال أميركا وبعض دول أوروبا الغربية في 1949، وتحت العناوين العسكرية ذاتها التي أعلنها اتفاق دونكيرك. وبعدما سُمح لألمانيا الغربية بالتسلح، تم ضمها إلى الحلف عام 1955، لتنتهي مقولة الخوف من هجوم ألماني، وتصبح الجبهة المفترضة لـ"الناتو" هي الاتحاد السوفييتي، والهدف تطويق دول النظام الشيوعي بالوسائل العسكرية، لمنع تمدّد نظريته السياسية ووقف نمو الأحزاب الشيوعية القوية في إيطاليا وفرنسا وتركيا.

بعدما انهارت النظرية الماركسية وتفكّك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، كان يفترض أن ينكمش "الناتو"، وتتقلص الميزانيات العسكرية للولايات المتحدة التي كانت تقوده، بزوال الخطر المفترض القادم من الشرق، لكن حدث عكس ذلك، فقد تمدّد الحلف أكثر نحو الشرق حتى أصبح يحاذي روسيا، وجرى ضم بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق إليه، وبعض عواصم دوله لا تبعد عن موسكو أكثر من المسافة التي يقطعها صاروخ باليستي متوسط المدى. لكنّ قادة الحلف أبقوا دولاً ذات حساسية روسية، كأوكرانيا وجورجيا، خارج الحلف، على الرغم من رغبة هذه الدول بالانضمام إليه، وكانت الأسباب التي سيقت للتريث في ضم هذه الدول تتلخص حول "احترام" المسافة الاستراتيجية الروسية، ويدّعي فلاديمير بوتين أنّ بوريس يلتسين قد تلقى وعداً بعدم توسع الحلف نحو الشرق، فيما تُنكر أميركا أيّ وعدٍ من هذا النوع.

ازداد نشاط "الناتو" عقب انهيار النظام الشيوعي، فقام بعمليات عسكرية واسعة النطاق، كانت جميعها موجهةً إلى مناطق نفوذ سوفييتية سابقة أو تدور في فلك السوفييت، أو تقع على مقربةٍ من حدوده، أولى العمليات كانت عاصفة الصحراء لتحرير الكويت من الغزو العراقي، حين هاجمت الولايات المتحدة القوات العراقية في الكويت، فيما كان الاتحاد السوفييتي يغرق، ويتخلى عن جمهورياته الواحدة تلو الأخرى. بعد عام، تدخل "الناتو" في منطقة البلقان إثر تفكّك يوغوسلافيا، وفرض منطقة حظر طيران فوق البوسنة والهرسك، ثم نفذ عمليات قصفٍ جوي على صربيا بعد ثلاث سنوات، وتدخل عام 1999 في كوسوفو بعملية، واستمر القصف من الجو ضدّ القوات والمنشآت اليوغوسلافية 78 يوماً، بالإضافة إلى جهوده المبذولة في احتلال كلّ من كابول وبغداد. وفي 2011، تدخل "الناتو" للمساعدة في إسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا .. كانت كل هذه الأهداف مجالات نشاط سوفييتية سابقة ثم مجالات مرشّحة للنشاط الروسي، ما يعني أنّ الحلف قد عمل بجد 20 عاماً لحرمان روسيا من مجال قد يساعدها على إعادة الحلم بتأسيس إمبراطورية شبيهة بحالة الاتحاد السوفييتي، أو على الأقل كإمبراطورية بطرس الأكبر الذي حكم أكبر دولة في العالم في عهده.

يصارع بوتين الآن، وعلى حدود بلاده مباشرة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهو يكاد يخسر الجبهة الشرقية بالكامل، بعدما وُضعت أوكرانيا عضواً مفضّلاً ومرشحاً للدخول في حلف الناتو، وهو يحشد قواته في محاولة لابتزاز الغرب ليتخلوا له عن قطاع صغير منها، فيحتفظ بماء الوجه، ويستعد لمعركةٍ قد تكون وشيكة في بيلاروسيا، وهي آخر القلاع الشرقية أمام الحلف، ويبدو أنّ مصيراً ينتظرها كمصير أوكرانيا.

فاطمة ياسين
فاطمة ياسين
كاتبة سورية، صحفية ومعدة ومنتجة برامج سياسية وثقافية