انتحار فتاة المول
لم يعد أحدٌ ينصح المتوجهين إلى القاهرة بزيارة الأهرامات أو برج القاهرة مثلاً، بل أصبحت النصيحة الأولى والتوصية التي يحرص الآخرون على إسدائها لك ليظهروا حرصهم عليك بأن تستثمر زيارتك، طويلة أو قصيرة، بزيارة مول "سيتي ستارز" في مدينة نصر، وهو من أشهر المراكز التجارية وأضخمها في الشرق الأوسط، وجرى افتتاحه في عام 2004. وبالفعل، فهو يضاهي وينافس في روعته المراكز التجارية في إسطنبول التي كانت وجهتي الثانية خلال إجازة الصيف الذي قارب أن يلملم أوراقه.
شهد هذا المركز التجاري الضخم حادثة بشعة قبل أيام غير متخيّلة الحدوث مع هذا الصخب والمرح والسعادة الذي يزخر به المكان، وقد جعلتني هذه الأجواء التي عشتها عدة ساعات أتساءل عن الفقراء أين هم في القاهرة بسبب الزحام المحبّب الذي يحثك على نوبة شراء غير مخطط لها في داخلك، مثلما حدث معي، خلال مروري مسافرة "ترانزيت" بالقاهرة، في طريقي إلى إسطنبول، وقد لاحظت أن رجال الأمن يتمركزون بزي ظاهر على البوابات الخارجية للمول، في حين أن داخله المتسع والمتفرّع يضم رجال أمن إداريين، لم يكونوا قادرين على منع وقوع جريمة بشعة حدثت قبل أيام، وهي انتحار فتاة في العقد الثالث من عمرها من الطابق السادس، حيث لفظت أنفاسها الأخيرة بعد سقوطها بدقائق، وبعد محاولة فاشلة لرواد المكان لإنقاذها قبل سقوطها وبعده.
التحقيقات مع والد الفتاة المنتحرة، وهي طالبة في كلية طب الأسنان، والأب طبيب متقاعد، كشفت أنه كان يعاملها أفضل معاملة حسب ادّعائه. وبالتأكيد، هي تعيش في وضع مادي جيد أو فوق مستوى الجيد، بدليل منطقة إقامة عائلتها، ولكن المبرّر الوحيد الذي ساقه الأب للمشكلات العائلية التي يُنسب لها سبب انتحارها أن والدها كان يرفض خروجها حتى وقت متأخر من البيت. ويبدو أن هذه الحجة الواهية ستار لأسبابٍ أخرى، قد نعرفها ونتوقعها في ظل الانفتاح في العلاقات بين الجنسين مثلاً التي أصبح يعيشه أولادنا، هؤلاء الأولاد الذين نوفر لهم، في الوقت نفسه، التدليل المفرط، ونفرض عليهم الحماية الزائدة منذ صغرهم، مع توفير كل سبل الراحة لهم ونقصد بها الراحة المادّية. وبالتالي، يُصابون بالهشاشة النفسية، فالأب في موقع عمله وتحقيقه الاستقرار المادي لأسرته، ومع صعوبة الحياة وزيادة متطلباتها التي خرجت عن نطاق المتطلبات العادية التي عاشها جيل الآباء والأمهات، ومع تكريس كل وقتهم لتحقيق هذه المتطلبات، فهم يغفلون عن التربية النفسية للابن أو الابنة. ولا يترك الابن، منذ طفولته، لكي يقتلع شوكه بأسنانه بمفرده، وينهار مع أول مواجهةٍ مع الحياة القاسية والمجتمع المتبدّل والمتحوّل والمتطلّب للصلابة والقوة، وأمام أول "لا" من أحد الوالدين نجد الابن أو الابنة يتضخم لديهم الشعور بالغبن والظلم، وتكون النتيجة المتوقعة الانسحاب من حياة ظالمة حسب رأيهم بالانتحار.
قرّرت هذه الفتاة أن تبوح لصديقتها أيضاً بأنها تعاني وتفكر بالانتحار (تموّت نفسها). وهنا يظهر دور الصداقة الفارغة أو الهشّة أو اللمّة الكذابة، كما نقول عنها، لأن صديقتها تركتها في المول، ولم تحمل على محمل الجد رغبة صديقتها التي نفذتها بمجرّد أن اختلت بنفسها، وقد نفذتها في مكان عام. وكان من الممكن أن تنفذها من شرفة البيت، أو من أعلى سطح البناية التي تقيم فيها، ولكنها كانت تريد أن توجّه رسالة إلى والدها، وللعالم أجمع، بأنها قد اتخذت قراراً بمفردها، ولكنه قرارٌ نهائي وبائس وحزين.
ظاهرة الانتحار في الأماكن العامة التي تشهد رصد كاميرات المراقبة أو رصد كاميرات الهواة في الهواتف المحمولة هي طريقة موت بحاجة للبحث والدراسة بشأن قرار المنتحر أن يفعل ذلك، وهل لم يكن فعلاً ينوي أن يفعل، لكنّ أحداً لم ينقذه، أو أنه أراد التراجع ولم يفلح، أو أنه بحثَ عن يد تربّت على كتفه وسط زحام هذا المول الضخم فلم يجد، فأصيب باليأس أكثر.