بابا الفاتيكان .. الماضي ملاذاً آمناً
ليس يسيراً تقييم زيارة بابا الكاثوليك فرنسيس إلى العراق بعدل، من دون انتقاص أو مبالغة في تقدير الإيجابيات. الحدث إيجابي بكل الأحوال، وتاريخي، ليس لأنها أول مرة يحط فيها ساكن الفاتيكان على أرض بلاد الرافدين فحسب، وما يرافق ذلك من تسليط الأضواء والإعلام على كل مكان يتجه إليه صاحب المنصب المرموق، بل نظراً إلى منسوب الهدوء الأمني الذي رافق الجولة أيضاً. صمتت صواريخ المليشيات التي تتفاخر بأنها تأتمر من إيران، وهجمات "داعش" كانت في حدّها الأدنى، وطبعاً استُغلت الإجراءات الأمنية الاحترازية لإسكات الشوارع الجنوبية الغاضبة.
في سبيل تقييم هادئ، وجبت العودة إلى الأهداف الموضوعة مسبقاً للزيارة، وهي تنقسم إلى نوعين: أحدهما لا يُصرَف في حساب سياسي وبنتائج ملموسة، ذلك أنه ينتمي إلى ما سماه الزائر "حجّاً"، وما يرافقه من كلام أدبي إنشائي روحاني، عن المحبة والسلام والوئام والمصالحة والمسامحة... وثاني الغايات تثبيت من تبقى من مسيحيين في العراق، ودعوة من هاجر أو هُجِّر إلى العودة، والتشديد على العيش المشترك بين أبناء الأديان "السماوية" في الأرض التي انطلقت منها جميعها. وفي الشعارين، أي بقاء/عودة المسيحيين والعيش المشترك، كلام سياسي كثير يمكن أن يُقال قياساً على جدول أعمال زيارة الأيام الثلاثة ما بين خمس محافظات. من بغداد والنجف وذي قار ونينوى وأربيل، هرب الزائر الثمانيني من الحاضر، على الأقل في العلن والتصريحات الرسمية، وارتاح إلى حصر الخراب بالفعل الماضي. والإرهاب، بكل سياق حمّله بابا الكاثوليك مسؤولية خراب الهيكل، أحال إلى جحيم "داعش" الذي أصاب في هجائه كمهجِّر سابق للمسيحيين وقاتِلِهم ومُصادِر لأملاكهم، وذلك صحيح، مع أنّ الرجل يفترض أنه يعلم أن الضحايا المسلمين السنّة لإرهاب "داعش" هم الغالبية الساحقة في حال وجبت المقارنة العددية.
ليس من العدل ولا من المنطق أن يُطالَب بابا الفاتيكان بقيادة معركة إعادة العراق إلى العراقيين، وإنهاء التخريب الإيراني فيه، فلا هذا شأنه ولا ذاك من واجباته. لكن إسماع المسؤولين الكثر الذين التقاهم كلاما يسمي الوجه الآخر لـ"داعش"، أي مليشيات تتبع لحكّام إيران، وتقتبس "داعش" في كل شيء، وتحديد من الذي يقتل اليوم ويهجّر وينكّل ويضطهد، ليس مطلباً خيالياً. لكن بابا الفاتيكان فضّل الطريق السهل على الأقل في العلن: اقصر كلامك على "داعش" وأرِح بالك من ألف سؤال وجواب. ونتيجة إشاحة البابا نظره عن المليشيات التي ورثت "داعش"، وعدم التلميح إليها، جاءت فورية على هيئة تصريحات إيرانية راحت تصدر منذ يوم السبت الماضي عن حسن روحاني ووزارة الخارجية، مرحبة بالزيارة، مع أنه لم يُعرف يوماً عن حكام طهران أي انفتاح ديني أو حماسة لتعايش وتعدد وتنوع قضوا عليه في بلدهم منذ ثورتهم، قبل أن يصدّروا الرأي الواحد والزي الواحد والمذهب الواحد إلى حيث وصلت أيديهم وراء الحدود. أما في الداخل الإيراني فلم تندر الانتقادات الحادة للبابا ولزيارته، كعقاب له على زيارته علي السيستاني.
عندما قاد يوحنا بولس الثاني الحرب على الشيوعية وعلى الاتحاد السوفييتي، لم يشتغل على الماضي إلا بوصفه عدّة أيديولوجية ضرورية في نزال الحاضر الذي كان وجودياً بالنسبة إلى الرجل، عقائدياً ودينياً وسياسياً وشخصياً. طبعاً أدت هويته البولندية دوراً أساسياً في تصدره المعركة المصيرية، وقد انتصر فيها، لكن الرجل فهم أنه يخوض حرباً عقائدية، وفي كل زيارة خارجية أجراها في إطار سعيه إلى انتصار المعسكر الغربي، لم يخبر أحداً أنه يقوم برحلة حجّ، بل اشتغل في السياسة وغرق فيها حتى أذنيه. خَلَفه، فرنسيس، وفريق عمله، إما أنهم عاجزون عن فهم مَن يحكم العراق ما بعد "داعش" ومن يستبيحه، أو ربما يكونون مقتنعين، كمقررين كثر في سياسات العالم، أن الإرهاب الذي يدعي الحديث باسم المسلمين، له انتماء طائفي واحد، وأن المذهب الآخر لا يمكنه أن يفرز داعشاً غير ذلك الذي صادر الاسم، ولم يستطع احتكار الداعشية.