باربي ولعبة الواقع
لم تكن روث هاندلر، الأميركية، مالكة شركة الألعاب الكبيرة "ماتيل"، بالشراكة مع زوجها، لتتخيّل حجم التأثير الهائل الذي أحدثته الدمية باربي، ابتكارها الأهم عام 1959 في مقاييس الجمال وعالم الموضة والموسيقى والسينما، وفي تغيير صورة المرأة الناجحة المتحقّقة. المفارقة أن "ماتيل" بدأت شركة صغيرة متخصّصة بصناعة إطارات الصور الخشبية، لكن إليوت، زوج روث، كان يستفيد من القطع المتبقّية، ويصنّع أثاثاً صغيراً مناسباً لبيوت الدمى. بعد ذلك، تخصّصت الشركة في صناعة الدمى، وحقّقت نجاحاً مقبولاً في البداية، وما إن ابتكرت روث باربي، المرأة المختلفة عن شكل الدمى الكلاسيكية، بقوامها الممشوق، وملامح وجهها المثالي، حتى أصبحت هذه معياراً جمالياً بحد ذاته، إذ يكفي أن تصف امرأة ما بأنها باربي، كي تعبّر عن جمال أنثوي خارق.
اكتسحت باربي العالم، وأصبحت في سنوات قليلة الدمية الأكثر مبيعاً على وجه الأرض، محققة للشركة أرباحاً طائلة. ولطالما تعرّضت للهجوم من نسوياتٍ وجدن فيها إفساداً لعقول الصغيرات، وتشويهاً لنظرتهن إلى أنفسهن، وتغييراً لفكرة الأنوثة التي حصرتها فكرة باربي بالجمال السطحي، وذلك رغم تعدّد الشخصيات التي طرحتها الشركة من الدمية الجميلة، فهناك باربي الطبيبة، والمهندسة، ورائدة الفضاء، لكن جميعهن يتمتعن بمزايا جمالية غير واقعية، ويعشن من خلال إكسسسوارات الدمية، من بيت وسيارة ونمط مترف.
سعت روث، من خلال باربي، إلى تجسيد فكرة الكمال، رغم إصابتها بالسرطان، واضطرارها إلى استئصال ثديها، والتغلب على إحساسها بالحرج، من جرّاء التشوّه الذي أصاب جسدها، وتلك مفارقة أخرى. وربما تضاءل تأثير باربي السيكولوجي والاجتماعي في العشرين سنة الأخيرة، ولم تعد الفتيات الصغيرات مسحوراتٍ بها، ولم تعد مثلاً أعلى لهن، لا سيما مع توفّر خيار الألعاب الإلكترونية التي تنفتح على عوالم أكثر تعقيداً.
تناولت السينما باربي في أفلام عديدة، موجهة أغلبها إلى الصغار. أما فيلم "باربي 2023"، إخراج غريتا غيروغ وتأليفها، وتمثيل مارغوت روبي، وريان غوسيلنغ، فقد أثار جدلاً كثيراً، وتعرّض لهجوم كبير. استند معارضو الفيلم إلى أنه يسيء إلى صورة الرجل، وينطوي على مفاهيم نسوية متطرّفة تقلّل من شأن الرجل.
يصنّف الفيلم عائلياً كوميدياً خفيفاً، لا يخلو من مغامراتٍ ومفارقاتٍ ذكية، ويقدّم باربي من منظور آخر، باحثة عن الحقيقة ومتأملة في الوجود. يتضمّن الفيلم أفكاراً عميقة، تتناول العلاقات الإنسانية، والصراع بين الذكورة والأنوثة، ويناقش وَهم الكمال والمثالية ومعاناة المرأة في المجتمعات الاستهلاكية التي تمعن في تشييء الأنوثة، وتضع المرأة أمام تحدّيات صعبة، ولا تساوي بينها وبين الرجل في الحقوق، فتثور باربي، بعد خروجها من عالمها الوردي المثالي إلى عالم الحقيقة القاسية، وتدخل في صراع مع الدمية "كين" الذي لم يعد محبوباً طيّعاً سهل الانقياد، وقد رافقها إلى عالم الحقيقة، وتعلم من الرجال البشر كيفية السيطرة على المرأة وإخضاعها للمفاهيم الذكورية السائدة، وتهميشها، واغتيال طموحاتها، وتقليص دورها، والحدّ من نفوذها في عالمها الوردي الخالي من التحدّيات والصراعات الحقيقية. ورغم انتصارها على كين في النهاية، تختار الحياة الواقعية، بالرغم من صعوباتها وأحزانها. وبذلك ينتصر الفيلم لحقّ المرأة في الحياة الحرّة العادلة، ويحث المتلقي على تقبّل حقائق الحياة المرّة من مرض وموت وخيانة وفراق وظلم، وعلى تذوّق جماليّاتها الكثيرة التي لا تحلو سوى بتحقّق أسباب التحدّي التي تضفي على الحياة مذاقاً مختلفاً.
فيلم باربي ممتع وعميق، رغم طغيان الطلاء الزهري الذي عرّضه لسوء الفهم، وقلّة التقدير، وفي ذلك تسرّع كبير.