باندورا: لا مفاجأة بل وقاحة
التعليق على كشف استقصائي بحجم "ملفّات باندورا" يحتاج إلى تواضع شديد. موجبات التحفظ تفرضها حقيقة أن الحديث يدور حول جهد 600 صحافي ينتمون إلى 150 مؤسسة إعلامية، فكّكوا طيلة 18 شهراً شفرة 2.94 "تيرابايت" من المعلومات (11,9 مليون وثيقة مكتوبة وصورة وملف وتسجيل صوتي ومصوّر...)، مصدرها 14 شركة تزوّد خدمات الجنات الضريبية والتهرّب الضريبي لمصلحة زبائن خاصين جداً في النظام المالي العالمي من 200 بلد: 130 مليارديراً و33 رئيس دولة (حاليا وسابقا) و330 سياسياً بالإضافة إلى مشاهير ورجال دين ومصرفيين ورياضيين ومهرّبين وتجار مخدرات. التوقيع العريض هو باسم "الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية" (ICIJ) وتحته تندرج لائحة أسماء مؤسسات إعلامية "ماينستريم" وأخرى تُسمى "بديلة" صارت تحتكر صفة "أكبر تعاون صحافي" في العالم منذ بدأت خبطاتها الصحافية في "ملفات بنما" (2016)، ثم "ملفات بارادايز" (2017) وأخيراً "باندورا" (2021).
يصعب اختصار مضمون 11,9 مليون وثيقة تفضح بالأسماء استثمارات وثروات سياسيين ومشاهير وأثرياء يحتالون لتهريب أموالهم من بلدانهم ومن أعين الرقابة والجباية الضريبية. لكن التوقف عند بعض الملاحظات التي تحيط بالسبق الصحافي قد يكون مجدياً: التهرّب الضريبي، وهو أحد الأشكال الأكثر عنفاً للفساد المالي، ظاهرة معولمة، لا حواجز جغرافية أو دينية أو سياسية تفصل بين أبطالها. المناطق الجغرافية الـ200 التي رصد الكشف الاستقصائي خروج أموال منها باتجاه الجنات الضريبية المسجّلة في شركات الجزر البريطانية العذراء وجزر السيشال وهونغ كونغ وبليز وبنما وولاية ساوث داكوتا الأميركية ودبي وموناكو وسويسرا، تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن شمالي الشمال إلى جنوبي الجنوب. تكشف التسريبات أن الفساد المتمثل بالتهرب الضريبي ينتشر بدرجة أقل في الغرب الأوروبي والأميركي، إلا أنه لا يغيب بالكامل هناك. يرصد الصحافيون الـ17 الذين فرّغتهم "الغارديان" البريطانية للمشاركة في العمل الجماعي، هويتي مسؤولين أوروبيين عضوين في اتحاد القارّة العجوز: رئيس حكومة تشيكيا أندري بابيش والرئيس القبرصي نيكوس أناستاسياديس. كلاهما متورّطان بامتلاك عقارات وشركات تتهرب من الضرائب وغير مصرَّح عنها لأية سلطة جباية. أما المسؤولون الأوروبيون السابقين، فهم كثر، أشهرهم طوني بلير، صاحب الصولات والجولات في شبهات الفساد. وفي جوار الاتحاد الأوروبي، تجد أسماء كالرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي وحاشية فلاديمير بوتين الذي ظلّ أذكى من أن يضع اسمه على ممتلكات تقدر قيمتها بمبالغ طائلة، لكنه زجّ أسماء محيطين كثر فيه، مثل رفيق طفولته و"حافظ محفظته"، بيتر كولبين.
في أخبار الفساد، لا مكان للمفاجآت، بل للوقاحة: الشركات اللبنانية المسجلة في الجنات الضريبية عبر شركة Trident Trust احتلت المرتبة الأولى عالمياً مع 346 شركة، تليها الشركات البريطانية (151). أما المرتبة الثالثة فهي للعراق!
وعلى سيرة لبنان، لا مفاجأة أيضاً في بوح الوثائق بحجم شركات آل ميقاتي اللبنانيين في الجنّات الضريبية. رئيس حكومة بلد منهار ويعتاش على التسوّل، ويملك هو وشقيقه 5,4 مليارات دولار بحسب تصنيف "فوربز"، يملك عقارات وشركات بقيمة هائلة بعيداً عن أعين الرقابة، ويطلب، في الوقت نفسه، من المستثمرين القدوم إلى بلده.
وإن كان لا مفاجأة كبيرة في الكشف عن أن ملك الأردن عبد الله الثاني وظف 100 مليون دولار لإقامة إمبراطورية عقارية في بريطانيا وأميركا، إلا أن المفاجئ نوع ردود الديوان الملكي على الخبر: قال إن نشر "وثائق باندورا" يمثل "تهديدا لسلامة الملك وأسرته". ثم استدرك أن "أملاك الملك عبد الله في الخارج ليست سرّاً". بما أنها ليست سرّاً، فما الذي يشكل "تهديدا لسلامة الملك وأسرته"؟ وطالما أنها ليست سرّاً، فلماذا أغلق الأردن موقع الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية على الإنترنت مساء الأحد قبل دقائق من بدء نشر المؤسسات الإعلامية ما لديها من فضائح؟
للعوالم السفلية أسماء كثيرة. للفساد أشكال عديدة، ولهواة الوقاحة عنوان واحد: وثاثق باندورا وأخواتها.