بتوقيت القدس
بتوقيتها، قرّرت أن ترفع صوتها وتتكلم، وهي دائمة الكلام، ولكنها نادرا ما ترفع صوتها، فكلامها يشبه الهمس الرقيق في ليلٍ ساكن، ولم يكن يسمعه سوى أهلها، الكبار والصغار، البنات والبنين، ولكنها قرّرت أن ترفع صوتها كما اعتادت في كل مرحلة من مراحل معركة البقاء. وبعادتها تلك، هي تشبه جدّتي كثيرا حين كانت تخفض صوتها، وهي تروي لنا الحكايا وتستعيد الذكريات. لم يكن غير الأحفاد يسمعون حكاياتها وذكرياتها. ومن يمرّ من بعيد كان يعرف أن هذه جدّة قد تقدّمت في العمر، ولكنها تمتلك ذاكرة قوية، وصوتا ذا نبراتٍ حانية، ترتفع وتنخفض حسب الموقف، فتشد الآذان نحوها، وتكاد الأنفاس تنحبس من جمال ما تروي وروعته.
حكايتها معروفة، وأهلها هم العارفون الملتفّون حولها بالطبع، فهي المدينة المقدّسة، عاصمة كل فلسطيني، مسلم ومسيحي، أسرى النبي محمد إليها، ووطئ ترابها المسيح عيسى. إنها القدس الجريحة والمتألمة والنازفة والموجوعة، ولكنها تبكي وتتألم، ثم تلعق جراحها في كل مرة، وترفع هامتها، وتعلن بدء مرحلة جديدة من مراحل النضال، معيدة ترجمة التاريخ.
بتوقيت القدس، قرّرت أن ترفع صوتها، كما كانت جدّتي تفعل، حين تمرّ جارة عاصية لزوجها، ومهملة لصغارها، فتتحدّث عن الحدأة التي تختطف الكتاكيت الذين تغفل عنهم أمهم، والثعبان الذي يهاجم العشّ الذي تبتعد عنه العصفورة قليلا، تاركة البيض الذي أوشك على الفقس بداخله. وهكذا تفهم الجارة فتعود وتضم وتحضن عشّها بما فيه من أرواح صغيرة، وتتغافل عن زوج طيب، ولكن ضيق الحال يحوّله إلى كائن هائج سرعان ما يهدأ بلمسة طيبة.
بتوقيتها، قرّرت القدس أن ترفع صوتها، لكي يسمعها كل من في أقصى الأرض وأدناها. جراحها كثيرة ونزفها مستمر، ولكنها قرّرت أن تتكلم، أن تتحدّث عن الأرض والأولاد والخيانة والوفاء، وتذكر كل دابّة على هذه الأرض أنها ريحانة البلاد والقبلة الثانية للعباد.
قرّرت القدس أن تتألق في ليالي شهر رمضان، فتزيّنت وتحضّرت، وأعادت رسم صورتها البرّاقة، فبدت مشرقة ولامعة. وما بين صلاة التراويح ومواجهة المحتل، روت للعالم أجمع أسطورة جديدة من الكفاح، تشبه التي رواها الثوار على مر التاريخ، بدءا من ثورة البراق ومرورا بثورة القسام وانتفاضة الحجارة، ثم هبّة النفق والانتفاضة الثانية التي عرفت بانتفاضة الاقصى، وها هو التاريخ اليوم يسجّل أسطورة اسمها معركة باب العمود.
القدس اليوم تفخر بالأحفاد الصغار الذين وعوا كل حكاياتها، حكايات المساجد والكنائس والأزقة والحارات، وتشرّبوا كل ما قالته لهم عن بطولات أجدادهم فانطلقوا في كل مكان، وهي تدعو لهم من فوق مآذن أقصاها وقبتها، وتباركهم وتحوطهم كنائسها بالتراتيل وتشعل الشموع، من أجل عودتهم سالمين، بعد أن يدحروا الغاصبين. القدس موقنةٌ أن أبناءها بررة وأعزاء عليها، وهي عزيزة عليهم، ولم يخب رجاؤها ولم يكذّب ظنها، وهي تراهم يفدونها بأرواحهم، ويهبون لحمايتها والذود عن حماها، ويحلمون ويتمنّون أن يدفنوا تحت ترابها، بل يوصون أولادهم بأن يحذوا حذوهم، ويقطعوا عليهم العهد بأن يسيروا على الطريق ذاته، وأن يسلّم كل جيل الراية لمن يليه، حتى يتحقق وعد الله ويأتي النصر.
تأمل القدس في هذه المرحلة من النضال أن ينصرها أبناء الشعب الفلسطيني كلهم ووحدهم، فما حدث في معركة باب العمود ليس إلا بركان غضبٍ ضد استهداف فلسطين، أرضا وشعبا وهوية. واليوم، والاحتلال يندحر عن باب العمود، هي تسطّر سطورا مضيئة من العز، وكأن الباري قد سمع دعاء عجوز تتوكأ على عصاها في الباحة، وتفطر في رمضانها على كعك القدس وفلافله، وتستمع لصوت الآذان. وفيما يردّد الشباب المقدسي المسلم التكبيرات، فتحط رحالها فوق مآذن الكعبة والمسجد النّبويّ، ويرتل شاب مسيحي اسمه نضال عبود في إنجيله بينهم، وتسمع زغاريد شهداء قد ارتقوا من بعيد على ثقة بأن النصر التام سيأتي بتوقيت القدس.