بحر المانش والموت
يتجمّع مئات من الفرنسيين أمام شاطئ مدينة كاليه في الشمال الغربي من البلاد، ليرموا وروداً في البحر ويشعلوا الشموع، تعبيراً عن حزنهم لغرق أكثر من 31 مهاجراً، اختاروا أن يمخروا عباب بحر المانش، الفاصل بين بريطانيا وفرنسا، بين نقطتين لا تتجاوز المسافة بينهما الثلاثين كيلومتراً. موقدو الشموع وحملة الورود عادوا إلى بيوتهم، بعدما لفحتهم نسمات الهواء البارد، ليجلسوا إلى جانب مواقدهم، متذكّرين وجوهاً صادفوها في المخيمات العشوائية المنتشرة في محيط هذه المدينة الساحلية منذ سنوات، والتي يتجمع فيها الراغبون بالعبور إلى الحلم البريطاني. وتطلق وسائل الإعلام الفرنسية تعبير الأدغال على هذه التجمعات، في إشارة إلى شريعة الغاب التي تحكمها، وإلى طريقة تعامل القوى الأمنية معها من فترة إلى أخرى، فبعد كلّ تحقيق صحافي، تغزو قوات الشرطة هذه التجمعات المكونة من خيم ممزقة وصفائح من الزنك، تقي ما أمكن من يلوذ بها من عوامل الطبيعة القاسية في هذه المنطقة وتحطّمها، وتجبر ساكنيها على ركوب حافلاتٍ تقلهم إلى أماكن إيواء محاطة بالأسلاك، والتي يمكن أن يليها ترحيل مباشر إلى بلد المنشأ إن لم يكن هناك من أسبابٍ موجبة لطلب اللجوء السياسي، فلا اعتراف فعلياً باللجوء البيئي أو الاقتصادي، على الرغم من أهميتهما، إلّا في ما ندر. ويتمكن معترضون كثيرون لهذه الحملات من الهرب، وينتشرون بين الكثبان الرملية، مختبئين بانتظار ذهاب الشرطة، والعودة إلى قواعدهم المؤقتة، بانتظار فرصة عبور إلى الطرف الآخر عبر ما تيسر من وسائل: فمنهم من يتعلق بأسفل الشاحنات التي تعبر من خلال النفق أو من يركب في قوارب متهالكة.
الدولة الفرنسية، كما أغلب الدول الأوروبية، تتمسّك بتبنّي الجانب الأمني/ التقني لمعالجة هذه المأساة الإنسانية
في منقلب آخر، وفي حمأة بداية الموجة الخامسة من الوباء القاتل، وفي خضم النقاشات المتطرّفة في مواقفها من الهجرة والمهاجرين، تحضيراً للانتخابات الرئاسية التي ستعقد بعد خمسة أشهر، عبّرت الأجهزة الحكومية عن شعور رسمي بالحزن. وسرعان ما امتلأت تصريحات المسؤولين بضرورة معاقبة شبكات التهريب، كما ضرورة الضغط على الدول التي تسمح بوصول هؤلاء المهاجرين الى الأراضي الفرنسية. إذاً، الدولة الفرنسية، كما أغلب الدول الأوروبية، تتمسّك بتبنّي الجانب الأمني/ التقني لمعالجة هذه المأساة الإنسانية بأبعادها كافة. وهذا ليس مستغرباً، خصوصاً عندما نعلم أنّ حجم الأموال التي تخصّصها الدول الأوروبية كلّ على حده من جهة، وكمجموعة عبر مؤسسات الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، للإنفاق على قوات حماية الحدود الخاصة بالمهاجرين. وليس بالطبع بمهرّبي المخدرات أو السلاح، تكفي وتزيد، إن كان الهدف من الهجرة تحسين الأوضاع الاقتصادية المأساوية، لإطلاق مشاريع عديدة يمكن أن تساعد في تنمية مناطق شاسعة من دول المصدر. وسيكون هذا أكثر إنتاجيةً في تلك الدول التي تستجر من أراضيها الشركات الغربية الكبرى موادها الأولية من دون أيّ عملية تصنيع محلية تساعد في توطين التكنولوجيا، أو على الأقل تساهم في امتصاص البطالة المستدامة.
الاستقرار الأمني، كما الحد من الهجرة ومحاربة الإرهاب، لا يتم عبر تأجيج الصراعات وحرمان الشعوب من حرّياتها
سياسياً، من نافع القول إنّ التوقف عن دعم الأنظمة الاستعمارية وتلكم الفاسدة والأخرى الاستبدادية بحجج واهية، والامتناع عن تزويدها بآلات القتل والتعذيب والمراقبة، يساعد أيضاً على تخفيض حاجة الانسان إلى الهرب من بلاده التي سرقها المحتلون الخارجيون والمحليون، فالصحف تتحفنا يومياً بأرقام هائلة من العملات الصعبة التي تتلقاها دول الغرب الديمقراطي، مباشرة أو عبر دولة وسيطة، لقاء تزويدها بلاد المصدر بالأسلحة والتقنية القمعية، كما التفهم والتفاهم السياسيين. من الممكن للجهود والأموال المبذولة للإبقاء على حلفاء الغرب من مستبدّي أفريقيا ما تحت الصحراء مثلاً، وصولاً إلى الانقلاب على من ينقلب عليهم. من الممكن إذاً أن تساعد في عمليات التنمية المجمّدة أو المسروقة في تلكم البلدان، ما يحدّ من الميول الشبابية خصوصاً إلى تركها في فم المستبد الجائع. إنها ليست قائمة حصرية، وليست كشفاً فلكياً. ومؤكّد أنّ جميع المعنيين يعرفونها ظهراً عن قلب، وهم يستمرّون في الاختباء وراء أوهام تدعم موقفهم من المستبدّين، وتدفعهم إلى دعم الثورات المضادّة أو السكوت عنها وأمامها. فالاستقرار الأمني، كما الحد من الهجرة ومحاربة الإرهاب، لا يتم عبر تأجيج الصراعات وحرمان الشعوب من حرّياتها، بل على العكس. وإن أصروّا على رجاحة موقفهم، فيمكن أن يكون قريباً للتحقق في الآجال القصيرة، ويكفي أن يبتعد النظر قليلاً ليروا وابل المآسي التي تترقّب الطرفين.
ما كان لنشاطات المهرّبين أن تثمر عن ثروات، لو كانت طرق الهجرة واللجوء تُديرها دول مؤمنة نظرياً بحقوق الإنسان
الفرنسيون خصوصاً، والأوروبيون عموماً، إذاً، يجادلون بملابسات المأساة البحرية رسمياً، بحصرها بدور المهرّبين الذين ما كان لنشاطاتهم أن تثمر عن ثروات، لو كانت طرق الهجرة واللجوء تُديرها دول مؤمنة نظرياً بحقوق الإنسان بالحياة وبالتنقل وبالبحث عن مصدر رزق وعن حماية نفسٍ.
في عشاء رسمي دعيت إليه، جلست إلى جانب رجل واسع الابتسامة، وقد خُضنا في مسألة اللجوء السوري وتكاليف المهرّبين في تركيا وسواها. وندّدت، بصراحتي غير الدبلوماسية، بتفاهة المنظومة التي تُصرف عليها الملايين، لملاحقة القوارب وإعادتها إلى شواطئ الانطلاق. وبعدما أنهيت حديثي بالتشكيك المبالغ به في أنّ المهرّبين يدفعون نسبة من أرباحهم إلى بعض مسؤوليها، سألته عن عمله، فأجابني أنّه مدير المنظومة إياها، فأكملت عشائي صاغراً.