برلمان تونسي من دون حسّ ومعنى
في مشهد لم تألفه سوى الدول التوتاليتارية، انعقدت يوم 13 مارس/ آذار الجاري الجلسة العامة الافتتاحية لبرلمان الجمهورية الجديدة التي بشّر بها الرئيس التونسي، قيّس سعيّد، منذ 25 يوليو/ تموز 2021، تاريخ مسكه جميع خيوط اللعبة السياسية في تونس، في غياب قوى الاتصال والإعلام والصحافة التونسية والأجنبية وممثليها الدوليين، ممن كانت تمتلئ بهم أروقة البرلمان التونسي وقاعاته (2011 - 2021)، إلا من الإعلام الحكومي مجسّدا في التلفزيون الوطني التونسي ووكالة تونس إفريقيا للأنباء والإذاعة الوطنية. لم يعتد الإعلاميون والصحافيون على مثل هذا السلوك السياسي بعد هروب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وانهيار نظام حكمه يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011، الموصوم بضرب الحرّيات عامة وتقييد حرّية الإعلام ومراقبة الصحافة وانتهاج سياسة التضييق الدائم، ولم يقبلوا منعهم تغطية الحدث البرلماني، خصوصا وأن البرلمان التونسي كان يعجّ عشر سنوات بكاميرات الصحافيين وتحقيقاتهم وتغطية كل الأحداث داخله وفي محيطه، وكانت منصّاتهم ومكاتبهم ومراكز التصوير مثل خلايا النحل لا تعرف سكونا، حتى صار العمل الصحافي الوجه الآخر للعمل البرلماني، فسارعوا إلى الاحتجاج والاعتصام في ساحة المجلس الخارجية في باردو طوال اليوم، وإطلاق التصريحات المندّدة والبيانات الشاجبة، من دون أن تتزحزح سلطة 25 يوليو، التي اتخذت قرار إقصائهم، عن موقفها قيد أنملة. ولعلّهم فهموا، وفهم معهم الرأي العام، أن الزمن السياسي التونسي قد انقلب على عقبه، بعد شيوع خبر قبض قوّات الأمن على أحد النواب الجدد من داخل قاعة الجلسة العامة، في أولّ يوم برلماني، وإيداعه السجن بحجّة ارتكابه جرائم انتخابية، رغم إعلان فوزه رسميا ونهائيا يوم 25 فبراير/ شباط 2023 من هيئة الانتخابات بعد استيفاء كل مراحل الطعون والتقاضي. وتواصلت جلسة انتخاب رئيس المجلس ونائبيه بصفة عادية من دون تعليق العمل أو الاحتجاج أو التنديد من زملائه النواب، وكذلك بعد تصريح الرئيس قيس سعيّد في اليوم نفسه من مدينة غار الدماء في الشمال الغربي التونسي، وهو الذي اختار عدم حضور الجلسة الافتتاحية لبرلمانه حامل بصمته السياسية والقانونية ومهندس ملمحه وراسم صورته النهائية "يجب أن لا ينسى النواب الجدد أنهم مسؤولون أمام الشعب ومن الممكن سحب الوكالة منهم في صورة ما لم يكونوا في مستوى تطلّعات ناخبيهم".
تُظهر هذه البشائر البرلمانية حلقة جديدة من حلقات اعتداء السلطة السياسية، صاحبة القرار، على حريّة الإعلام والصحافة التي مثّلت أجمل رفقة لما يصطلح عليه بعضهم "العشرية السوداء"، التي كان بياضها ناصعا على الحقوق والحرّيات العامة والفردية، ومن أهمّها حقّ المواطن التونسي في المعلومة، وواجب وسائل الإعلام نقلها بكلّ شفافية وتفكيكها وفكّ شيفرتها وتحليل محتواها، بقطع النظر عمّن يكون صاحبها حزبا أو ائتلافا حاكما أو أحزابا معارضة أو كتلا مستقلّة، عديدة الألوان ومختلفة الأيديولوجيات والرؤى والمصالح والرهانات. وبدلا من أن يدافع النواب الجدد، وخصوصا رئيس المجلس المنتخب حديثا، عن الإعلاميين والصحافيين وكل وسائل الإعلام والاتصال، لما لهم من مزايا على العمليتين السياسية والانتخابية، والتعريف بالنواب قبل الانتخابات وبعدها، وحقهم في دخول المجلس وتغطية أعمال الجلسة العامة الافتتاحية وأشغال لجنة النظام الداخلي التي تعقد اجتماعاتها منذ أسبوعين في كنف السريّة التامة وكأنها تعدّ سلاحا فتّاكا، استكان الجسم التشريعي الجديد للقرار الجائر، وهو في حقيقة الأمر بروفا من التعامل الانتقائي للمجلس التشريعي مع الإعلام، وفيه رسالة واضحة إن زمن الإعلام الحرّ الذي كان يرصد كل حركات النواب وسكناتهم ويتابع مواقفهم ونقاشاتهم ومناكفاتهم وصراعاتهم وتحالفاتهم وما يخفون وما يعلنون في أعمالهم وينير بها سبيل المواطن التونسي آناء الليل وفي وضح النهار قد ذهب وولّى.
ولد البرلمان التونسي الجديد فاقدا المشروعية الشعبية، والحسّ والمعنى، فهو صنيع انتخابات جرت في دورتين يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2022 ويوم 29 يناير/ كانون الثاني 2023، كان الترشّح فيها فرديا، والغلبة كانت لروابط القرابة والدم والعصبية، وخصوصا القبيلة والعرش بديلا عن الأحزاب والائتلافات السياسية، ولم يشارك فيها إلا 11% من التونسيين، ولا يمكن اعتبار تلك النسبة القياسية من عدم المشاركة نتاج سلوك انتخابي عفوي، فالعفوية عندما تتكرّر تتحوّل إلى موقف واع يسمّى المقاطعة، وهو ما حصل مع أول انتخابات تنتظم في تونس بشروط نظام المراسيم ودستور الرئيس قيس سعيّد لسنة 2022، ما جعلها تحطّم كل الأرقام القياسية في ضعف المشاركة محليا وعالميا.
من مظاهر فقدان المعنى في البرلمان الجديد طبيعته الذكورية الغالبة في مجتمع تفوق فيه نسب تمدرس الفتيات الفتيان، ويتفوقّن علميا ومهنيا
وسيتحوّل فقدان المشروعية إلى أزمة شرعية لمؤسسة تشريعية تُصدر القوانين باسم الشعب الذي لم ينتخبها، ذلك أن نواب البرلمان التونسي الحالي هم الأضعف تمثيلية في تاريخ الانتخابات التونسية، فرديا وجماعيا، وصل بعضهم إلى البرلمان بدون منافسة من أحد ومهما كان عدد المصوّتين (7 نواب)، والبقية (147) تمكّنوا من المهمّة النيابية بواسطة معدّل أصوات يتراوح بين 2000 و4000 صوت للنائب الواحد، ومنهم من فاز بمقعد نيابي بـ 934 صوتا بينما كان أكبر عدد من الأصوات 8280.
فقدان المشروعية متأتٍ أيضا من الطبيعة الصورية للبرلمان الجديد، فبعد أن كان مجلس نواب الشعب وفقا لدستور 2014 السلطة الأصلية التي تنبثق عنها كل مؤسسات الحكم التنفيذية أو تؤمن لها الشرعية، بما في ذلك رئاسة الجمهورية، ومختبر صناعة القوانين والتشريعات التونسية، وإعطاء الثقة للحكومات والوزراء وسحبها منهم ومساءلتهم، استحال المجلس مؤسسةً منزوعة الشوكة والصلاحيات، يقتصر دوره على تزكية القوانين التي يقترحها الرئيس دون سواه، مع الإيهام بالتشريع عن طريق مقترحات يتقدّم بها عشرة نواب لا تتمتّع بالأولوية وغير قابلة للتطبيق، لعدم القدرة على توفير تكاليفها المالية، وفق ما يقرّه دستور الرئيس، إن البرلمان التونسي اليوم هو أقرب إلى أن يكون ديكورا للسلطة وزينتها التي تتباهى بها أمام الدول الأخرى ولدى المؤسسات الدولية وفي المحافل التي تقيمها فتسوّق نفسها حكما ديمقراطيا مرجعه دولة القانون والمؤسسات.
استحال مجلس النواب مؤسسةً منزوعة الشوكة والصلاحيات، يقتصر دوره على تزكية القوانين التي يقترحها الرئيس دون سواه
يبيّن التوزيع المهني للنواب أن أغلبهم ينتمون إلى قطاع موظفي الدولة، وفي مقدمتهم رجال التعليم الثانوي والابتدائي، حسب العمل الاستقصائي الذي نشره موقع الكتيبة يوم 9 مارس/ آذار الجاري، ويليهم في الترتيب أعضاء المجالس البلدية، وخصوصا رؤساء البلديات، ثم المشتغلون بالقطاع الخاص والأعمال الحرّة والمؤسسات الصغرى. وتتوزّع بقية المهن بعشوائية، فهناك الصحافي والمسرحي والضابط العسكري المتقاعد والدبلوماسي، وهناك أيضا صاحب ورشة الميكانيك ورئيس فريق بناء وسائق سيارة الأجرة. والملاحظ ضعف الكفاءات العلمية الجامعية من مختلف الاختصاصات ممن يشتغلون بالبحث وصناعة الأفكار. وكذلك الأمر بالنسبة لرجال القانون من محامين وقضاة وعدول إشهاد وتنفيذ. وينسحب الأمر على المختصين في المالية من خبراء محاسبين وموظفي البنوك والبورصة والسوق المالية، وعلى المهندسين في التخصّصات التكنولوجية والاتصالية والزراعية والصناعية والمائية، فقد لوحظ رفض من النخب المهنية الترشّح لعضوية المجلس الجديد، بسبب الإجحاف في الشروط الذي تميّز به دستور 2022 والمرسوم الانتخابي. وفي غياب الأحزاب عن هذا المجلس، باستثناء حركة الشعب (حزب قومي عروبي) التي تقدّم أعضاؤها بوجه حزبي مكشوف، دخل بقية الأعضاء المؤسسة التشريعية أفرادا متناثرين يفتقدون إلى رؤى سياسية جماعية وتمثّلات وطنية واضحة، بمن فيهم المنحدرون من أحزاب قديمة تلاشت وذهب ريحها، مثل حزب نداء تونس، هدف بعضهم تحسين أوضاعهم المادية ونسج شبكات مصالح قد لا تتوفّر لهم في مهنهم الأصلية أو الأطر السياسية القديمة التي انتموا إليها سابقا وتلاشت نهائيا.
من مظاهر فقدان المعنى في البرلمان الجديد طبيعته الذكورية الغالبة في مجتمع تفوق فيه نسب تمدرس الفتيات الفتيان، ويتفوقّن علميا ومهنيا، ويبلغ عدد الناخبات المسجّلات 4.6 ملايين امرأة بنسبة 50.8%، في حين يبلغ عدد الناخبين الذكور 4.4% بنسبة 49.2%، وهذا التفوق النسائي في عدد الناخبين التونسيين يقابله مجلس تشريعي يتكون من 129 نائبا رجلا بنسبة 83.8% مقابل 25 نائبا امرأة بنسبة 16.2%. وتعكس هذه النسب مدى تخلف المرسوم الانتخابي الذي أفرز هذه النتائج، مقارنة بالتحوّلات العميقة التي عرفها واقع المرأة التونسية، وخصوصا في مستوى المشاركة السياسية، إذ لا يستقيم الأمر في بلدٍ تتولى فيه المرأة رئاسة الحكومة و40% من المناصب الحكومية، بينما تكون تمثيليتها في المجلس التشريعي فولكلورية.
سيتحوّل فقدان المشروعية إلى أزمة شرعية لمؤسسة تشريعية تُصدر القوانين باسم الشعب الذي لم ينتخبها
يشبه البرلمان التونسي الجديد، إلى حدّ كبير، برلمانات الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، التي كانت مقتصرة على النواب الذين لهم مطلق الولاء لمنظومة 7 نوفمبر (1987) وزعيمها، وفي المؤسّسة التشريعية الجديدة لا مكان لمن يعارض منظومة 25 يوليو (2021) والرئيس قيس سعيّد، حتى تحوّلت كلتا المنظومتين إلى نوع من الأيديولوجيا رغم بساطة الأفكار البنعلية - النوفمبرية ونظيرتها السعيديّة - الجويلية، وذلك عكس ما كان سائدا طيلة الفترة 2011 – 2021، فلم يمنع مناوئي الثورة التونسية ومن لا يعترفون بها (الدستوريون وخصوصا الحزب الدستوري الحر) أو من يطلقون عليها تسمية الربيع العبري (القوميون وبعض فصائل الجبهة الشعبية) من دخول المجلس التأسيسي وبرلماني 2014 و2019.
لن يكون البرلمان الجديد صوت الشعب التونسي بأي حال، فهو لا يعكس فسيفساءه السياسية المكوّنة من الدستوريين والعروبيين والاسلاميين واليساريين والليبراليين، وهو ليس برلمان الكفاءات المدنية والحقوقية، والنخب الوطنية متعدّدة الانتماءات والمشارب الفكرية، ولا يحظى بتأييد الحركة النقابية العريقة التي تعود نشأتها إلى سنة 1924 ومقاربتها التاريخية الحشّادية، ولا يمثّل المرأة التونسية ونضالها التاريخي ضدّ الاستبداد الشرقي وتخلّف الذهنيات وعتاقة التمثّلات، إنه ببساطة برلمان الرئيس قيّس سعيّد ومن والاه، وليس البرلمان التونسي الذي سقط من أجله الشهداء سنة 1938 وهم يطالبون بـ "برلمان تونسي وحكومة مسؤولة لديه"، وسُجن المعارضون من أجل تحريره من استبداد الرئيس بن علي وتحويله إلى برلمان الشعب بدلا من برلمان الحاكم. وهذا النوع من البرلمانات المرتبطة بالأشخاص، مها علا شأنهم وعظمت عبقريتهم، قد يطول عمره، لكن التاريخ لن يذكره إلا فترة عابرة وقوسا فُتح ليغلق.