بعيداً عن التكافؤ في الحب
لديَّ، أنا محسوبكم، هاجس يدفعني إلى التدقيق في الكلام الذي نردّده، أو نغنّيه عفو الخاطر. والحقيقة أن محرّكات البحث والمنصّات الإلكترونية المعاصرة، مثل غوغل ويوتيوب وويكيبيديا، تمنحنا فرصة ذهبية لتتبع المصادر الأصلية لهذه الأغاني والتدقيق في كلماتها. خذ، مثلاً، أغنية صباح فخري "يا بنت عينك عينيَّة... والله المحبة بليّة"، تجدها مسجّلة ضمن ما يعرف باسم "فلكلور شامي"، وهذا التسجيل، في زعمي، غير دقيق، لأن سلطانة الطرب في مصر منيرة المهدية غنّتها في العشرينيات، أي قبل ظهور صباح فخري بربع قرن، وغنّاها المطرب العراقي ناظم الغزالي، مع اختلافات طفيفة في الكلمات بين النُسَخِ الثلاث. إذا أردنا أن نضع العقل والمنطق في موضع العواطف، نجد أن الشطر الثاني من الأغنية سيئ للغاية، ونصّه عند منيرة المهدية "مَنْ باح بالسر يُقْتَلْ شرعاً ولا لُه دِيَّة". وعند صباح فخري توضع "خَطِيَّة" في مكان "ديَّة"، وناظم الغزالي يستبعد هذا الشطر من أغنيته، وهو على حقّ في ذلك، لأن أقصى درجات الفظاعة أن يكون جزاءُ مَن يبوح بالسرّ القتل، حتى من دون أن تُدفع لأهله ديَة، أو تعويض، ولستُ أدري كيف ولماذا أضافوا إليها كلمة "شرعاً".
المنطقي في العشق المتبادل بين الرجل والمرأة هو التناظُر، والتكافؤ، والندّية. والمبالغة في الحب، والتضحية ببعض الحقوق، ودخول بعض المشكلات والمنغّصات على الخط، مثل البعد، والهجر، والعزل، والخصام، تبقى مقبولة ما دامت في حدودها الإنسانية الطبيعية. وعليه، يصبح من حقّنا أن نتساءل وبمنتهى الجدّية: ما معنى أن أموت لكي يحيى حبيبي؟ وما الفائدة من ذلك (لا مؤاخذة)؟ إذن، لا يمكن أن يوجد الحب الطبيعي، من دون بقاء الحبيبين، كليهما، على قيد الحياة، وفي هذه الحالة لا بد من نسف كل الأغاني التي يَفتدي فيها أحدُ الحبيبين الآخر بروحه، أو أن يموت أحدهما قبل الآخر، كما في قصيدة "سليمى" التي غنّتها المطربة زكية حمدان، وفيها: "غداً لما أموتُ وأنتِ بعدي.. تطوفين القبور على تأنّي.. قفي بجوار قبري" أو قصيدة الأخطل الصغير "عش أنت إني متُّ بعدك" التي غناها المطرب أحمد الفقش سنة 1928، كما يورد الدكتور سعد الله آغا القلعة، وغنّاها فريد الأطرش من ألحانه سنة 1973. وهناك أغنية "يا حلو يا مسليني" التي كتبها عبد الرحيم المسلوب، ولحّنها عثمان الموصلي، وجرى تناقلها فولكلورياً حتى قدمها صباح فخري بصوته الجميل، وفيها يقول المطرب لحبيبته: "ومن الشباك لأرمي لك حالي". وهذا المعنى، في ظني، أكثر كارثية من كل ما سبق، فسقوط الإنسان من شُبّاك داره، إذا لم يؤدِّ به إلى الموت، فقد يصيبه بكسور ورضوض تحوّله كسيحاً، فبماذا يفيد الحب والغرام والهيام في حالته؟
يمكننا أن نتوقف، كذلك، عند القصيدة الرائعة التي تغنيها فيروز "يا مَن حوى وردَ الرياضِ بخَدِّهِ"، التي ينسبها الناقد محمد السماوي إلى الشاعر نصير الدين الطوسي، وعدّل بعض كلماتها الأخوان رحباني، فأضافا إليها بيتاً من عندهما، هو: "إن شئتَ تقتلني فأنتَ مُحَكَّمٌ، مَنْ ذا يطالبُ سيداً بِعَبْدِهِ؟" هذا البيت، وعلى الرغم من جمال صياغته وفيضان مشاعر الحب منه، ينطوي على معنيين سيئين. الأول، هو استعداد الحبيب لأن يُقتل بناء على مزاج حبيبه. والثاني، أن يكون له عبداً، مع توضيح أن العبد إذا قُتل، لا يحق لأحد أن يطالب بديَته، على هذا المنوال، يمكننا قراءة رائعة أحمد شوقي "مُضناك جفاه مرقدُه" التي تُظهر شخصية العاشق مسحوقة أمامَ عشيقه، ويصل به المقام أن يكون خادمه ويناديه بكلمة "مولاي"، ويَجزِمُ أن روحه في يَدِه، فإذا أضاعها لا يمتنع عن لومه فحسب، بل يشكره، ويقول: قد ضيّعها سلمتْ يَدُه.