بليغ حمدي في منظار الأبنودي
قبل ثلاثين سنة، 12 سبتمبر/ أيلول 1993، رحل الموسيقار بليغ حمدي، المتربّع على صرح موسيقي لا يُطَاوَل، متأثراً بمرض الكبد، بعدما عاش حياةً صاخبة، فيها كمٌّ هائل من النجاحات، والاضطرابات العاطفية، والأحداث المأساوية التي أعقبت الموتَ الغامض لسيدة مغربيةٍ في داره، اضطرّ بعدها إلى مغادرة مصر التي ظلّ يلحّن لها، ولشعبها، حتى يخال مَن يتابع سيل أعماله أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يفعل شيئاً غير إنتاج الألحان التي تُغَنَّى في المساء، فيستيقظ الناطقون باللغة العربية في كل مكان، صباح اليوم التالي، ليسمعوها، ويترنمّوا بها، ويطربوا لها، ويدخلوها في ذاكرتهم.
ما يعرفه الناس أن بليغ من مواليد حي شبرا في القاهرة، 1931، ولكن الشاعر الكبير، عبد الرحمن الأبنودي، يحكي في مقابلة تلفزيونية أن بليغ حمدي صعيدي، أصلاً، من سوهاج، أي جار الأبنودي القادم من قِنَا. ويتساءل عن معنى حديث النقاد عن "مصرية بليغ حمدي"، أو قولهم إن بليغ مَصَّرَ الغناء المصري، فهل استدلّوا على ذلك بأنه لحّن لشادية "يا حبيبتي يا مصر"، و"أم الصابرين"؟ أم أن هناك شيئاً في روحه الموسيقية، دلّه على منابع غير التي استقى منها الملحنون الآخرون ألحانهم؟ يذهب الأبنودي إلى أن بليغ اهتدى إلى منابع مصرية، بمعنى "نيليّة"، أي أنه مُتَرَبٍّ على ضفاف النيل، مستحمٍّ بمائه، متسلّق نخيلَه. وعدا عن النيلية، أتيح لبليغ التخلصُ من القوالب العربية أو التركية السابقة عليه. ويأخذ الأبنودي مثالاً عملياً على وجهة نظره بأغنية "عدوية"، التي كتبها الأبنودي بتأثير الصعيد، ويتساءل: كيف لحّنها بليغ، مع أن فيها كلاماً عجيباً مثل: والله صورتِكْ دي تنفعْ تزيّن الجَرَانيل، أو بإيديّ المزامير وبقلبي المسامير؟ ويضيف أنه لم ينجح فيها نجاحاً عادياً، بل استثنائياً، حتى إن محمد رشدي أصبح مشهوراً من خلالها، وأصبحت كلماتُها الصعيدية العجيبة تتردّد على كل لسان، في العالم العربي كله. وهنا يصل إلى ذكر المزايا التي يمتلكها بليغ حمدي دون غيره من الملحنين، فلو تمعّنا في مسار الأغنية لوجدنا استهلالة مصرية خالصة: "آه يا ليل يا قمر والمنجا طابت ع السجر"، وفيها الموال، والتقاسيم، والحوار المسرحي كما في سؤاله البنت: "اسمك إيه ردّي عليّ"، فتقول: عدوية. ويخلص إلى أن لدى بليغ مقدرة على استحلاب الروح العاطفية في النغمة المصرية، فهو، مثلاً، يمسك كلمة "نسي" في الأغنية التي لحّنها لنجاة الصغيرة، من كلمات محمد حمزة، ويلعب بها حتى يُخرج من داخل المستمع كل التصوّرات التي يعرفها لهذه الكلمة.. وهذا طبعٌ مستقر فيه، فهو يأخذ أي كلام مكتوب، ويبدأ بعزف مقدّمته، ويقول: أنا عارف أن عبد الرحمن يريد اللحن كده، مثلما فعل عندما لحّن لشادية "آه يا اسمراني اللون". وهذا يأخذنا إلى أن العمل معه ذو متعة خاصّة، فهو يلحّن جملة، وسرعان ما يكتشف طريقة أبسط، وأقرب إلى الروح فيها، فيجري وراءها، ويعيدها عدّة مرات، وعندما ينتهي الإنسان من سماعها، يعرف لماذا فعل هذا كله.
الاكتشاف الأهم، عند الأبنودي، أن بليغ طبع عدداً لا بأس به من المغنّين بطابعه، كمحمد رشدي، وعبد الحليم حافظ منذ أغنية تخونوه، 1957، وصولاً إلى أي دمعة حزن، وحبيبتي من تكون.. وكانت له مساحة (حصّة) كبيرة في صوت وردة الجزائرية، بل إنه طبعها بطابعه، بالإضافة إلى المطربين الذين يمكن أن نغامر ونقول إنهم من اختراعه، عفاف راضي، مثلاً، وعلي الحجّار، والأهم من هذا كله أن بليغ طوال حياته لم يقل، ويستحيل أن يقول: أنا قدّمتُ فلاناً، أو صنعت فلانة، فمن فضائله أنه كان يتوارى بعدما ينجح اللحن، لماذا؟ لأنه، ببساطة، يعتبر أنه صار ملك الناس، ويذهب باحثاً عن لحنٍ آخر.