بوتين والصورة
يعيش الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حالة الانسداد العسكري خارج الحدود، فتأتي صورته في طهران ترجمة لهذا المأزق. كان يمكن أن تمرّ الصورة في القرن التاسع عشر وليس في القرن الواحد والعشرين، فروسيا تشنّ حرباً في أوكرانيا في مناخ دولي معارض. هذا يشبه كتاب "نهاية التاريخ" لفوكويوما. ظاهرة صورة القيصر القوي، تكبر إلى درجة التضخم، خارج مواثيق الضبط في المجتمع الدولي، وتحوّل حياة العالم إلى كابوس.
يحاول بوتين، عبر الصورة، التأثير من خارج الحدود للمصلحة الشخصية العالمية، وتسمح آليات استخدام الصورة في تجاوز الحواجز والقيود، في التعبير الرمزي. وإذا أمكن لترويض الخصم الأميركي، والبحث عن ملجأ لخطف الضوء منه على المستوى الدولي. يتحرّك كلاعب جمباز، يقفز بقوة أسفل سلم الطائرة الرئاسية التي أقلته إلى طهران، سريع الخطوات، يخلع جاكيتته في استعراض "الفتوة"، في تسويق لغة الجسد، في استنفار النظم الرمزية للصورة التي أحبها الروس بعد عقود مع قيادات أهانتهم في كبرها، في مقابل صورة النصف البارد للشخصية التلفزيونية الشهيرة، ستيف أوستن، عند الرئيس جو بايدن، فأميركا دولة متنمّرة (خارجياً)، أيا كان رئيسها، تطلب منه أن يذهب الى العالم، ويفعل ما يفعله الرؤساء. حتى لو اضطر الأمر إلى نشر الخراب بعكس ما يفعله في الداخل، وحده ترامب نقل هذا "التنمر" إلى الداخل. يحاول بوتين التوسع في نقطة تأثير الصورة، في تحويل الرأسمال الرمزي إلى رأسمال مادي، تراكم سلطة ونفوذ بالتناغم، ما يشبه فيلماً سينمائياً، تغطية على "الفكر المتوحش" على حد قول كلود ليفي شتراوس (1908-2009)، أحياناً أبعد من الكلام ومن السياسة نفسها. وقد رأيناه يتحرّك في الرياضة والصيد والبحر والبر، يؤدي رسائل محسوبة. السوفييت يؤثرون غالباً بشكل كلاسيكي الفعل المفاجئ الإعلامي. في المقابل، الأميركيون، وتحت شكل من أشكال الحرب الثقافية، بمقدورهم التأثير أكثر عبر الصورة، والدبلوماسية الشعبية وبواسطة الفنون والأخبار، بمقدورهم تقديم صورة أكثر مرونة وسلاسة.
حرب إعلامية من نمط جديد، يذهب تأثيرها وفق محللين إلى التأثير النفسي، وتساهم في إرساء تفوق الشخصية، أو إرساء مجموعة من الشيفرات والرسائل، وفقاً لموجة الحروب الإعلامية الثالثة عند الباحث الاميركي ألن توفلر. الصورة بين بايدن وبوتين تشترك، أو تتقاطع مصالحها في سلسلة الأحداث التي تبرز على مساحة الحدث في الشرق الأوسط. في الصورة من طهران، كأنّ الرئيس الروسي يوحي أنّ العالم ما زال يعيش الثنائية القطبية. يعمل جيداً بفرضية ريتشارد زفرانسكي، على أمل أن تلاقي صورته قبولاً لدى العاملين في المنظومة الإعلامية، ولدى الشعب الروسي تحديداً، فيستقبلون المؤثرات الخارجية، مساهمة في إنشاء تاثيرات أخرى، تساهم في التشويش على الآراء والعقوبات الغربية وصورة الخصم.
يحاول بوتين التوسع في نقطة تأثير الصورة، في تحويل الرأسمال الرمزي إلى رأسمال مادي
بوتين قارئ جيد لروزينو في كتاباته عن الفرد الماهر، القادر على قلب أساسيات دبلوماسية الدول. يظهر في القمة الثلاثية في طهران، مهتماً بشؤون محورية، إلى درجة تدفعه، كالعادة، إلى مهاجمة السياسة العالمية، متحدّياً الهيمنة الأميركية في نسق الصورة شديدة الاتساع، من اللباس الأنيق إلى حرية الحركة، الألفاظ، السلوك، فيجلس متباعداً على مساحة من نظرائه، يتعمد خفض نظراته، يعكس ثقة كبيرة بالنفس. يمكن أن يضيف إليها محللون نفسيون حالة الانشطار التي يعيشها بوتين، وما يقوم به، وما يصرح به لا يخفي طبائع الاستبداد. ولعلّ منظّرها عبد الرحمن الكواكبي يساعدنا في فهم هذه الظاهرة في السياسة الدولية. يعتبر بعضهم أنّها ظاهرة تعبر عن ضعف مخيلة، وتسد فراغاً عند القيصر الروسي، ولامبالاة، وأصولية، من طبيعة العلاقة بين الشيوعية والثيوقراطية، ومن نوع توريط مجتمعه والعالم في حرب عالمية ثالثة. يحتاج الأمر إلى سبر أغوار شخصيته لضمان الحصول على زخم إعلامي، غير الصورة المباشرة التي يستخدمها بقوة في الآونة الأخيرة كسلطة لا تحجم، تسمح بالإشارة والانفعال، كمكون أساسي من شخصيته النرجسية. رسالة قمع أحياناً بحدود ومعايير عالمه الخاص، حاكم منفرد، يفعل ويقول ما يريده من دون معارضة ذات فعالية في بلده عشرين عاماً، يلعب لعبة "الفالس" مع نسخته الثانية ميدفيديف الذي يشكك باستمرار وجود أوكرانيا على خريطة العالم.
مشكلة هذه الصورة أنّها أدخلت روسيا في علاقات تصادمية مع الآخرين، تبحث عن مشروعية قومية لإرادة ماضوية تذكر بالفترة الاستعمارية التي لا تخفى عن الإيرانيين والصينيين، ولن تساعد في تطوير أوضاع الشرق الاوسط.
في الصورة من قمة طهران، كأنّ الرئيس الروسي يوحي أنّ العالم ما زال يعيش الثنائية القطبية
استخدام السحر والتضليل الإعلامي متاح في نظرية هربرت شيلر (1919 - 2000)، في سحر الصورة وأوهامها، كأنها لا تخفي الارتكابات والمجازر التي ارتكبتها روسيا في كل من سورية وأوكرانيا ودول في الشمال الأفريقي، كما أنّه يؤكد زعامته من خلال المشاركة مع صورة بايدن في المنطقة، ومن موقع القيادة لأوضاع العالم في الطاقة والأمن الغذائي. يريد أن يظهر أن أزمة أوكرانيا تحت السيطرة الكاملة، من دون الحاجة إلى تعليق سياسي، يرافق عادة نتائج الزيارة، لا من خلال المطلوب من الزيارة، وتوقعات إيران منها متواضعة جداً، فيما قصة المساعي الروسية للحصول على أسلحة من إيران غير مقنعة ومفاجئة للجميع، وروسيا هي التي ساهمت بانشاء صناعات إيران العسكرية والمورد الأساسي لها بعد كوريا الشمالية، ثمّ قصة نفاد ترسانة روسيا تبدو غير مفهومة من قوة عظمى.
أما تقديم أسلحة إيرانية في الحرب على أوكرانيا سيضع إيران في مواجهة أوروبا التي لم تغادر موقفها الإيجابي من الاتفاق النووي، وسيكون الثمن كبيراً على إيران وعلاقاتها التجارية الواسعة مع السوق الأوروبية وشركاتها النفطية العملاقة. وأثر ذلك سينعكس سلباً في ما يخص السعي الأميركي إلى احتواء ردود الفعل الإسرائيلية التصاعدية على توقف المفاوضات النووية، كما أنّ في الصورة، زيارة بايدن جرى التحضير لها جيداً، ولم تكن مفاجئة، ولم تتم، لو لم تكن مجهّزة للنجاح مع القادة الرئيسيين في المنطقة الذين أظهروا صورة متماسكة من التنسيق والتناغم في التعامل مع الموقف الأميركي، من جهة تعزيز العلاقات المشتركة، والحرص على أمن الطاقة العالمي. والأهم تعزيز المفاهيم المستحدثة من السيادة، بالحرص على استمرار العلاقات المتبادلة مع روسيا والدول الآسيوية. هذه ملفات سيادية، كما أنّها، أي دول المنطقة، ليست جزءاً من مشروع أمني يجري الحديث عنه بين أميركا وإسرائيل، يحدّد نوايا إسرائيل تجاه إيران. لا تستطيع صورة بوتين فرض إيقاعها بسرعة (ريشارد ليمان بوشمان)، تحتاج تحليلات عميقة، لشخصية دقيقة، تحسن ضرباتها، يعتقد أنّها تغلف عزلتها .. ليس بعيداً عن تشعب مجتمع الاتصال وقضايا الحرب وقضايا المجتمع الإنساني.