بيت القطط
كان من الممكن أن أجلس والخوف في عينيّ، أتأمل المشعوذة العجوز ذات الأظافر الطويلة القذرة التي تشبه المخالب. وكان من الممكن أن أستمر بابتلاع الحبوب المسكّنة حتى آخر يوم في حياتي، لولا أنني وقعت مصادفةً على إعلان تخفيضات على الأسعار لأحد المعامل المخبرية على بعض فحوص الفيتامينات والمعادن الضرورية للجسم.
وهكذا، كنت أجلس أمام الممرّضة الشابّة التي لطخت وجهها بالمساحيق، لتخفي آثار الإجهاد، وبدأت تسحب القليل من دم وريدي الممدود أمامها، فيما تردّد كلمات معتادة روتينية بأن العملية سهلة وليست موجعة، وكل ما علي ألا أنظر نحو الإبرة التي تتّجه نحو ذراعي، لتنغرس فيها وتنشر بعض الألم قبل أن تبدأ عملية سحب بضع قطرات من الدم.
وهكذا، جاءت نتيجة التحاليل بعد يومين وعبر رسالة نصّية على هاتفي لكي تضعني في حيرة ومتاهة جديدتين، فنتيجة التحاليل تشير إلى أنني أعاني من نقص حادٍّ في نسبة فيتامين "د"، وهذه مفاجأة لي، فعادتي بالجلوس تحت أشعة الشمس كل يوم، مثل قطة كسولة لعدة دقائق ثم استئناف مزاولة عملي بكل رضا دفعتني للاعتقاد أن هذه الدقائق تحت أشعة الشمس كفيلة بإذابة القليل من الدهون المتجمعة تحت جلدي وتحويلها لفيتامين مهمّ يقوي عظامي ومفاصلي، ويبدو أنني كنت تلميذةً نجيبةً في المدرسة، لأني ما زلت أذكر نصيحة معلمتي السمراء عن ضرورة التعرّض للشمس، لكي تحمرّ خدودنا وتقوى أسناننا وعظامنا.
قبل ذلك الإعلان بأيام، كدت أستمع لنصائح جارتي التي أشارت علي بضرورة زيارة تلك العجوز الشمطاء التي تسكن في أقصى المخيم، وحيث تحيط بيتها بجيش من القطط، حتى أطلق على بيتها اسم "بيت القطط"، فجارتي ترى أن الآلام التي أعاني منها مع الأرق الليلي ما هي إلا نتيجة لسحر سفليّ قد أعدّه شخص ما لي، وربما هو من صنيع امرأة خبيثة، فالمرأة لا يكيد لها إلا امرأة مثلها، وأن عليّ أن أختلي بنفسي وأستعيد مواقف أغضبت فيها نساء أعرفهن أو أثرت غيرتهن، حسب قول جارتي، وعليّ ألا أستبعد أن إحداهن قد أعدت لي سحرا للمرض، فليس من الطبيعي أن تداهمني مثل هذه الأمراض في هذه السن. ويبدو أنني كدت أقع ضحية لوساوس جارتي الأمينة المخلصة، لولا ذلك الإعلان الصغير الذي طالعته في "فيسبوك".
تحوّلت إلى قارئة نهمة عن كل ما يخص هذا الفيتامين، ويبدو أن معلومة صغيرة من معلمة المرحلة الابتدائية لا تكفي. ولذلك، أمضيت الساعات وأنا أقرأ بالعربية والإنكليزية عن فيتامين "د". أما مشاهداتي مقاطع الفيديو لأطباء التغذية ومختصيها فحدّث ولا حرج، وهكذا اكتشفت أن أعراض نقص فيتامين "د" تنطبق عليّ تماما، مثلما كدت أصدق أن أعراض سحرٍ قد أصابتني قبل أيام، من خلال وساوس جارتي التي تبدو كنصائح، وتنمّ عن محبتها الطيبة لي.
لعدة أيام متتالية، أجادت جارتي صناعة الوهم داخلي، وكدت أصبح نهبا لأفكار وظنون بثتها على مسامعي، خصوصا وهي تستشهد بقصص وحكايات غريبة عن ضحايا السحر، وتستشهد أيضا بـ "السر الباتع" للمشعوذة العجوز التي تعيش في بيت القطط التي لا يجرؤ أحدٌ أن يركل قطة تموء أمام باب بيتها في منتصف الليل.
هكذا يجيد صانعو الوهم عملهم، والواقع أنهم يستغلون اللعب على قاعدةٍ مهمةٍ ومثبتة، أن العقل البشري قابل لتلقي الخرافة والوهم وتصديق المجهول أكثر. وتعتبر الرغبات والمخاوف من أكبر مسبّبات تقبل الوهم، وهي غير مرتبطة بمستوى تعليمي أو اجتماعي أو اقتصادي معين. ولذلك نجد أن كبار رجال السياسة زبائن دائمون للعرّافين والسحرة والمشعوذين. وكان من الممكن أن أصبح زائرة دائمة لتلك المشعوذة العجوز، ولكني اليوم زائرة دائمة لقنوات "يوتيوب"، حيث أعيد مشاهدة المقطع الواحد عشرات المرّات لأدوّن الأطعمة التي يتوفر فيها فيتامين "د" بكميات كبيرة وأطبق أعراض نقصه على نفسي بكل رضا واقتناع.