بين المتشابه والمختلف
ذات صبحية شتوية، وبعد أن شربت المرأتان القهوة بالقرب من المدفأة، وتبادلتا الأحاديث الخفيفة المسلية التي لم تخلُ من النمائم البريئة، والتذمّر من كسل الأزواج وارتمائهم الطويل على الأرائك قبالة التلفزيون في متابعة مباريات كرة القدم، وطلباتهم التي لا تنتهي، ومن انهماك الأولاد في ألعابهم الإلكترونية التي تعزلهم عن محيطهم، وتحولهم إلى كائنات متوحّدة، عاجزة عن التواصل الطبيعي مع ذويهم، ومن ارتفاع أسعار الوقود والسلع الاستهلاكية، ومن إهمال حارس العمارة الذي لا ينظّف الدرج جيداً رغم التنبيهات المتكرّرة، ومن شحّ المطر رغم البرد الشديد المصاحب لبدء المربعانية التي يقصّ هواؤها المثلج العظم. وفي سياق تبادل الخبرات بشأن أفضل وسيلة لتحضير ورق العنب، ثار جدال كبير بين الجارتين، الصديقتين منذ سنوات طويلة، أوشك أن يتحوّل، في لحظة، إلى خصام شديد اللهجة بشأن الطريقة الأفضل لطهيه. أصرّت الأولى على خطوة قلي قطع اللحم حتى تحمرّ، قبل وضعها أسفل الطنجرة، وصفّ حبّات الكوسا وورق العنب وسكب المرق المملّح والمبهّر فوقها، وطهيه ساعاتٍ على نار هادئة، كي تعطي مذاقاً شهياً، فيما كانت الثانية أكثر تمسّكاً برأيها، بعدم ضرورة هذه الخطوة التي تؤدّي إلى جفاف اللحم، مؤكّدة أن وصفتها هي الأصحّ، معدّدة بإسهاب المزايا المترتبة على اتباع طريقتها في إعداد الطبخة، حيث تذوب قطعة اللحم مثل البسكويتة في الفم، مؤكّدة أن الجميع يُطري على طبخاتها اللذيذة التي لا يُعلى عليها... وبعد نقاش طويل، وتشبث السيدتين بموقفيهما، وفي النهاية، وحسماً للخلاف، ومن باب الانفتاح على الرأي الآخر، اتفقتا على أن تجرّب كل منهما وصفة الأخرى. ولأن الإنسان، في العموم، عبدٌ للاعتياد، فإن أياً منهما لم تلتزم بالاتفاق الجنتلمان، واستمرّت كل منهما بالطهي على طريقتها، من دون إفصاح عن واقعة نقض الاتفاقية، بعد التواطؤ الضمني على تجاهل الحكاية، حفاظاً على الجيرة والصداقة المهدّدة بالزوال، في حال تعمّق النزاع أكثر من ذلك.
يمكننا اعتبار هذه الحكاية البسيطة التي لم تتعدّ جدران المطبخ نموذجاً لتكوين العقل البشري المركّب، والقائم على التمسك بالقناعات، باعتبارها حقائق مطلقة، لا يجوز التزحزح عنها قيد أنملة.
من هنا، قد نصل إلى نتيجة عدم جدوى مجادلة الناس في قناعاتهم، لأن ذلك سوف يُفضي إلى مزيد من سوء الفهم، وربما القطيعة الكاملة لمن يخالفنا في الرأي والموقف والمعتقد، ويجعلنا مرتاحين أكثر مع من يشبهنا ويشترك معنا في رؤيته إلى الأمور، من دون أن ننتبه إلى حقيقة أن المعرفة والخبرات الجديدة تكمن في التعاطي مع المختلف عنا، وأن المتشابه لن يضيف إلينا شيئاً، بل سوف يكرّس حالة الجمود والانغلاق في طريقة تفكيرنا التي يستفزّها المختلف، فيحفّزنا على التأمل والتحليل والنقد وإعادة النظر والتحرّر من قيد الأفكار الثابتة. وهذا تحدّ كبير، يصعب على كثيرين منا التصدّي له، وبما يترتّب عليه الاضطرار إلى الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه بالنتيجة، ما يهزّ اعتداد الواحد منا بنفسه وباطمئنانه إلى مسلّمات نشأ عليها وركن إليها، وباتت جزءاً من ملامح هويته.
يتطلّب الأمر شجاعة كبيرة وقدرة على مواجهة الذات وإعادة تقييمها ومراجعة ما تتوهمه من ثوابت غير قابلة للنقاش، وإتقاناً أكبر لفن الاختلاف، واستعداداً أكثر للإصغاء والانفتاح على أفكار مختلفة قد تنطوي على وجاهةٍ وبعد نظر، ما ينشّط عقولنا ويجعلها أكثر حيوية ومرونة. أما فيما يتعلق بخلاف الجارتين حول ورق العنب، فمن المتّفق عليه أنه طبق شهي في كل أشكال طهيه، مهما تعدّدت الآراء واختلفت المدارس.