بين المقاربتيْن العسكرية والإنسانية للعدوان
ما أظهرته كتائب القسّام من عبقرية عسكرية في عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر) سيدرّس في أهم الكليات العسكرية وأكبرها. وبلا شك، إنّ تكتيكات الكتائب العسكرية والمواجهة الحالية في حرب العصابات مع الآلة العسكرية التدميرية الإسرائيلية تسجّل لها، ويتوافر على قدر كبير من التضحية والإبداع والعمل الدؤوب والصبر في مواجهة ليس فقط أعتى الخبراء العسكريين الإسرائيليين، الذين يفتخر بهم الكيان الصهيوني بصورة مستمرّة، بل حتى الخبراء العسكريين الغربيين الذين يساندونهم، ويقدّمون لهم النصائح منذ بداية العدوان.
هذه المقاربة العسكرية مهمّة، لكنها لا تغني عن المقاربة الإنسانية للعدوان على غزّة، في حربٍ غير متكافئة ولا عادلة، وتفتقر إلى أسس الأخلاق والقانون في الصراعات العسكرية، ولا تغني عن أهمية بناء الرواية الإعلامية الفلسطينية والعربية والإنسانية على التركيز على حجم العدوان وما يقوم به من حرب إبادة وتطهير عرقي وتدمير كامل للمدن وقتل المدنيين بعشرات الآلاف وتهجير مئات الآلاف، لأنّ هذا الجانب البشع الخطير هو الذي يمثّل جوهر المشروع الإسرائيلي في الحرب على غزّة، والعمل المستمر على تهجير السكان الفلسطينيين، سواء في قطاع غزّة أو الضفة الغربية أو حتى من يمتلكون اليوم الجنسية الإسرائيلية، لكنهم يعامَلون بمنظور ديني هويّاتي معادٍ لهم.
من الضروري أن تكون الصورة واضحة. إننا لا نتحدّث هنا عن جيوش متوازية، ولا عن قوات عسكرية متوازنة، بل عن مسار مختلف تماماً. فالجيش الإسرائيلي يصبّ جام غضبه على المدنيين والأبرياء والأطفال والنساء، ويخوض حروباً في المستشفيات والمدارس، ويهدم البنية التحتية كاملة، ويقوم، عامداً متعمّداً بصورة معلنة، وبتواطؤ من الإدارة الأميركية وبعض الحكومات الغربية بتهجير الفلسطينيين من بيوتهم، ويعلن اليوم خطّة اجتياح عسكري لجنوب غزّة بموازاة استكمال السيطرة على شمال غزّة، ما يعني بالضرورة أنّ نيات التهجير القسري ما زالت قائمة، والفيتو الأميركي على التهجير هو لذرّ الرماد في العيون.
بوضوح أكثر، الانتصار في الحرب المعنوية والرمزية للمقاومة مهم، في الجانب العسكري، لكن ذلك من المفترض تأطيره في السياق الموضوعي الصحيح، ضمن معادلة موازين القوى الظالمة، وأن لا يكون على حساب الصورة الكبرى اليوم، حتى لا يُمرَّر المخطّط الأكبر بذريعة الصورة العسكرية الباسلة والفدائية لمقاتلي القسام، ولصمود أهالي غزّة، بخاصة الذين لا يزالون في مدينة غزّة ومخيمات الشمال وسط هذا الجحيم الكبير.
تأسست الرواية الإسرائيلية العالمية على قاعدة أنّ حركة حماس هي "داعش"، وأن إسرائيل تريد أن تحمي المدنيين، وكانت هذه الرواية هي السائدة في البدايات، لكن الأمور تغيّرت بصورة إيجابية ومهمة ونوعية في المراحل التالية، وخسرت إسرائيل الحرب الإعلامية والأخلاقية أمام العالم، حتى إنّ التقارير تشير بوضوح إلى انزعاج الدبلوماسيين الأميركيين من تدهور سمعة أميركا في العالم، بسبب هذا الدعم الفاضح لعدوان إسرائيل الهمجي، وهي الصورة الحقيقية لما يحدث، إنها حرب إبادة وجريمة ضد الإنسانية وقتل للأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين، لتحقيق أهداف سياسية بالأساس، مرتبطة برؤية يمين إسرائيلي ديني ومحافظ متطرّف.
لقد أظهر تقرير جديد لمعهد السياسة والمجتمع مع مؤسّسة مكانة 360 عبر تحليل 40 ألف تفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لمن يصفون أنفسهم بأنهم خبراء عسكريون وأمنيون، أنّ هنالك تحوّلات مهمة على صعيد الرواية العالمية، بالرغم من أن ثلثي التفاعلات كانت في الولايات المتحدة وبريطانيا المؤيدتين للعدوان الإسرائيلي.
ثمّة اتجاه من المثقفين العرب يتخوف من التركيز على الصورة الإنسانية، ويرى ضرورة التركيز على المقاومة المسلحة، حتى لا يثار الرعب والهلع في قلوب الناس، وهو توجّه خاطئ، لأنّ الفصل بين المسارين أولاً ضروري، ولأنّ الصورة الكلية اليوم هي حرب إبادة وجريمة إنسانية كبرى بالدرجة الرئيسية والأولى.