بين مقاربات الأدلجة الراهنة و"الهوية الأردنية العميقة"
دار حديثٌ مفاجئ خلال حفل إشهار رواية الصديق محمد الزيود "فاطمة"، الأسبوع الماضي في عمّان، بحضور نخبةٍ من الأدباء والباحثين والمهتمين، إذ وجّهتُ سؤالاً عن السبب الكامن في تغلّب مناخات الحزن على الروايات الأردنية عموماً، بخاصة التي تتناول حياة المواطنين والتاريخ الاجتماعي والثقافي؟... وهذا ما يمكن ملاحظته في "فاطمة"، وروايات أخرى لأدباء أردنيين آخرين، فما هو سرّ هذه الحالة، ولماذا تتغلغل كثيراً في الرواية الأردنية، ويغيب، في أحيانٍ كثيرة، المرح أو السرور؟
تصدّى للإجابة عن السؤال الوزير الأسبق والخبير السوسيولوجي، صبري ربيحات، الذي ربط حالة الحزن بغياب الرفاه في حياة الأردنيين، إذ إنّ اقتصاد الأردنيين يعتمد، بدرجةٍ كبيرةٍ، على موارد محدودة، وهو ما انعكس على المجتمع والعلاقات الاجتماعية والحالة النفسية العامة، فالأردنيون يشقون ويعانون من أجل تأمين حياتهم. أمّا الأديب والروائي، مفلح العدوان، فمع إقراره بهذه الظاهرة في الروايات الأردنية، إلاّ انّه قال، في المقابل، إنّ هنالك طقوساً من الفرح والمرح في التاريخ الاجتماعي والثقافي الأردني، مثلما هي حالة الأعراس والمناسبات الاجتماعية، وحتى ما ورد في رواية "فاطمة" من الذهاب إلى قبور الأضرحة والاحتفاء بهم وبالأعياد الدينية بالأناشيد والولائم وغيرها، فالأردنيون، وفقاً للعدوان، يعيشون على أمل الانتظار بما هو أفضل، سواء انتظار الشتاء وطقوس الاستمطار (في التراث الشعبي في أكثر من منطقة في الأردن كان الناس يخرجون في جمع كبير، يقودهم شيوخ الدين، إلى قبور الأولياء، يستغيثون الله لإنزال المطر). وينتظرون مواسم الحصاد، وهكذا، فإنّ جزءاً كبيراً من حياتهم كان مرتبطاً بالظروف المناخية وسياسياً بالدول المسيطرة (منذ مراحل الإسلام المبكّر).
يذكّرنا موضوع الانتظار بصورة فوتوغرافية قديمة التقطها غربي (نُشرت في مجلد من الصور أنجزته السفارة التركية هديةً للشعب الأردني بذكرى مئوية تأسيس الدولة، وهي صور مستلّة من قصر يلدز، ترصد شرقي الأردن خلال تأسيس محطة الحجاز، أُنجز عملها في العام 1907) تُظهر أردنيين في لباسٍ بدوي يقفان على شاطئ البحر الميت، وينتظران شيئاً مجهولاً، لا يشي المحيط حولهم بأنّه سيأتي، وكأنّها ترمز إلى حالة الانتظار المستمرة لدى الأردنيين، ما بين الأمل والترقب وربما القلق من شيء قادم يشكل هاجساً لهم!
سؤال الهوية الأردنية في أبعادها المعرفية، يستحضر التطور التاريخي والمجتمعي والجغرافي، وربما يستدعي تاريخ المدن والمجتمعات المختلفة
يأخذ السؤال السابق موضوع الهوية الأردنية بأبعاد مختلفة عن البعد الأيديولوجي الذي يتأطّر فيه حالياً، هو محاولة بالفعل لاستكناه (واستكشاف) أغوار الشخصية الأردنية وتشكلات الهوية النفسية والمجتمعية والثقافية للناس، خارج سياق الأبعاد الأيديولوجية والسياقات السياسية التي يتم تناولها من خلالها، بخاصة خلال الفترة الأخيرة، عندما ارتفع الجدل والسجال حول الهوية الوطنية والهوية الجامعة، إذ يتم استحضار موضوع الهوية في أوقات الأزمات الاقتصادية وتوظيف الهواجس وتأجيجها، فينتقل موضوع الهوية من سياقات البحث المطلوبة في المجال المعرفي والثقافي والتاريخي إلى المجال الأيديولوجي المؤطّر الانتقائي، من دون عناء البحث والتفكير والتحليل بالفعل لمفهوم الهوية الأردنية وتشكّلاتها التاريخية والثقافية وارتباطها بالأنماط المجتمعية والاقتصادية، وفي تطور المدن والقرى والحواضر الأردنية!
في كتابه المهم "هوية فرنسا" (ثلاثة مجلدات)، يعود المؤرّخ الفرنسي، فرنان برودل، إلى التاريخ والجغرافيا والمكان والأشياء، لملاحقة تطور الهوية الفرنسية في أبعادها المختلفة والمتعدّدة، ولاستنطاق شخصية الفرنسيين، انطلاقا من التاريخ وصولاً إلى العالم المعاصر، من خلال متغيرات رئيسية عديدة، وهنالك أبحاث وكتب عديدة شبيهة في بناء مقاربات معرفية عن هوية دول وشعوب ومجتمعات، وفهم العوامل والمتغيرات التي أدّت، بالفعل لتشكّل الهويات العميقة الحقيقية المرتبطة بعوامل الإنتاج والاقتصاد والثقافة والتاريخ والجغرافيا والسياسة إلخ.
بالعودة إلى سؤال الهوية الأردنية في أبعادها المعرفية، فإنّ ذلك يستحضر التطور التاريخي والمجتمعي والجغرافي، وربما يستدعي تاريخ المدن والمجتمعات المختلفة، والتحولات الاقتصادية، بخاصة في بدايات القرن العشرين، عندما كان هنالك صراع بين القبائل البدوية الكبيرة والمتحدات الفلاحية التي أقامها الفلاحون لحماية إنتاجهم ومحاصيلهم من الغارات البدوية.
قبل الولوج إلى نقاشات الهوية وصراعاتها الراهنة، من الضروري أن تكون هنالك حفريات حقيقية عميقة معرفية في استنطاق الهوية الأردنية
يشير رئيس الوزراء الأردني الأسبق، عبد الرؤوف الروابدة، في كتابه "الأردن وفلسطين: التاريخ المعاش" (الصادر أخيراً عن مركز الدراسات الاستراتيجية، وهو محاضرة ألقاها الروابدة في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، (15/6/2021)، بشأن العيش المشترك بين الأردنيين والفلسطينيين، مثلاً، إلى ظروف نشأة الإمارة والمملكة الأردنية الهاشمية وتشكلهما، وإلى الحكومات التي حكمت شرق الأردن خلال عهد الإمارة كاملاً (1921 - 1946)، فقد تشكّلت سبع عشرة حكومة لم يرأس أياً منها أي أردني. كان أغلب الرؤساء من فلسطين والوزراء من البلاد العربية، يضيف الروابدة: "يؤكد هذا التوحد العروبي الذي شجّعه الأردنيون أن الأمير سمى إمارته حكومة الشرق العربي"، وقد استمرّت هذه التسمية حتى 13-11-1927)".
إذاً قبل الولوج إلى نقاشات الهوية وصراعاتها الراهنة، من الضروري أن تكون هنالك حفريات حقيقية عميقة معرفية في استنطاق الهوية الأردنية؛ أو خصائص الذات الجغرافية والسكانية والتراثية وهكذا؛ لا بد من طرح أسئلة عديدة، حتى على التطورات المعاصرة في مجالات متعدّدة: كيف تطوّرت حياة الأردنيين لاحقاً، وانتقلت من البداوة والفلاحة إلى التمدّن، وكيف أثرت سياسات الدولة على علاقة الناس بوسائل الإنتاج؟ والانتقال والهجرة من الأرياف والقرى إلى المدن؟ وما هو دور القوات المسلّحة في تشكل الهوية الوطنية الأردنية منذ مرحلة مبكرة من عمر الإمارة، ثم في عهد المملكة؟ وكيف تعرّف العلاقات الأردنية - الفلسطينية على أكثر من صعيد، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وكيف يمكن الفصل بين هذه الأبعاد؟ ما هو تأثير الهجرات على تشكّل المجتمع الأردني، ليس فقط الهجرة الفلسطينية من الـ1948 والـ1967، بل حتى هجرة الشراكسة والشيشان والأرمن في مرحلة مبكّرة؟ ثم هجرات السوريين المتعدّدة.
خلاصة القول إن البحث عن الهوية الأردنية وطرح سؤال الهوية يستدعي مجموعة من الأسئلة والتساؤلات والنقاشات التي تغور في أعماق الذات أو الكينونة الأردنية، ويتجاوز محاولات أدلجة ساذجة تأخذ لحظات تاريخية محدّدة تضخّمها وتوظفها في سياقات من التجاذبات الراهنة!