تطوّرات في الملف السوري
تغري التطورات التي شهدها الملفّ السوري، أخيراً، بتأمله، ودخوله، والتجذيف في أوحاله. مسألتان بالغتا الخطورة والأهمية احتلتا فيه موقع الصدارة، تحتاج مناقشتُهما الكثير من الصدق، والموضوعية، بل والمكاشفة. تتعلق الأولى بالصلح الوشيك بين النظامين، التركي والسوري. هذا الصلح متفرّع، أساساً، عن محاولات تأهيل النظام السوري، الجارية منذ انطلاق المبادرة الأردنية (قُلْ: العربية) في يوليو/ تموز 2023، المدعومة من روسيا، مع ضوء أخضر أميركي. الثانية؛ مقتل مستشارة الرئيس السوري لونا الشبل في ظروف غامضة، وذهاب معظم التحليلات السياسية لربطها بوجود إيران في منطقتنا، واتهام الشبل بتسريب معلومات إلى إسرائيل أدّت إلى "اصطياد" شخصيات من الحرس الثوري الإيراني في دمشق.
اليوم؛ بات ملايين السوريين المقيمين في تركيا، وفي الشمال السوري، يشعرون بالخطر، من شبح التقارب التركي السوري، ويتوقّعون أن يصبحوا، في وقت قريب، ضحية صفقةٍ تشارك في هندسها روسيا وتركيا والعراق، تضعهم في خبر كان، وهذا ما يفسّر ردود فعلهم الغاضبة حيال أحداث مدينة قيصري. يُلاحظ، هنا، أن الحدّةَ في ردود الأفعال، حتى في المناطق التي تديرها تركيا، أعزاز وعفرين، وصلت إلى حد إهانة العَلَم، وهذا معاكس تماماً لما كان يحصل خلال عَشر السنوات الأولى من التلاحم العضوي بين الثوار السوريين والدولة التركية، حكومة وشعباً. مثلاً؛ كان المتحدّثون باسم السوريين في مناطق الشمال السوري، يقلّلون من شأن التجاوزات التي يرتكبها عناصرُ الجندرمة التركية، وأحياناً موظفو دائرة الهجرة، أو بعض المواطنين الأتراك، وينظرون إليها بالعين التي ورد ذكرُها في بيت شعرٍ للإمام الشافعي (وعينُ الرضا عن كل ذنبٍ كليلةٌ)، وكانوا يفزعون، في كل ما يتعرّضون له، إلى حكمة القيادة، التي دأبت على الدفاع عنهم، وطَمْأَنَتِهم على مستقبل وجودهم، ولكن القيادة نفسها ظهرت وكأنها تريد أن تقلب لهم ظهرَ المِجَنّ، عندما بدأت عمليات ترحيل شرسة، وغير متروّية، فأصبحنا نرى الشرطة التركية تضع شبّاناً سوريين في حافلات خضراء، وتنقلهم قسراً إلى الشمال "المحرّر"، من دون أن تعطيهم فرصة لجلب بقية أفراد أسرهم، وبدأ التوتر بين الطرفين يتصاعد، ويخمد، حتى أواسط سنة 2022، حينما صدمهم تصريح وزير الخارجية، شاووش أوغلو، بالتنويه إلى احتمال لقاء الرئيسين، أردوغان والأسد، وطي الخلاف بين المعارضة والنظام.. وقد نُسي ذلك التصريح، لأنه لم يترجَم، في حينه، إلى خطوات إجرائية، ولكن التصريحين المتتاليين اللذين أدلى بهما وزير الخارجية الحالي، هاكان فيدان، ورئيس الجمهورية أردوغان، قصما ظهر البعير، ودخلت بينهما حادثة قيصري، التي يقف وراءها القوميون، تحديداً، ففجّرت الاحتقان بالخوف من المستقبل لدى هؤلاء السوريين، وبدأوا ينعتون الشعب التركي (كُلَّهُ، وليس فقط منفّذي شغب قيصري) بالعنصرية، من دون أن يدقّقوا بمعنى هذا المصطلح. دفعت هذه التطورات الرئيس التركي إلى أن يظهر مجدّداً، ويعلن عن اعتقال ما يزيد عن أربعمئة محرّض على اللاجئين، ويهدّد بكسر يد مَن يفعل ذلك، إضافة إلى موقف حادّ ممن اعتدوا على هيبة العَلم التركي.
ما يمكن قوله، أخيراً، بخصوص لونا الشبل، وباختصار، أن اصطياد إسرائيل المواقعَ والشخصيات الإيرانية لم يتوقف، الأمر الذي يبعد الشبهة عن الشبل، ويشير إلى أن تسريب المعلومات لإسرائيل مستمرّ، وأنها قد تكون صُفِّيَتْ لسبب آخر.. وأما التقارب التركي السوري، فيمكن القول إن هذا مسار طويل، ومعقّد، قد ينجح، وقد يخفق، مثلما أخفق مراراً، لأن عند كل واحد من الأطراف المتدخّلة في هذا الشأن اعتبارات، واشتراطات، قد يستطيع الوسطاء تدوير زواياها، وقد يخفقون.
ولعل من المفيد تذكير السوريين، أخيراً، بأن وضعهم حسّاس، وليس من الحكمة أن يدخلوا في عداء مع الحكومة والشعب التركيين.