تلك المبالغات الإسرائيلية بعد نتائج الانتخابات الفرنسية
لم يكن غريباً على الإسرائيليين أن يتفاعلوا مع نتائج الانتخابات الفرنسية، بعد أن جاءت نتائجها مُعلِنةً فوز اليسار الراديكالي بقيادة حزب فرنسا الأبيّة، الذي يتزعّمه جان لوك ميلانشون، ليؤدّي ذلك إلى قلق إسرائيلي يهودي ممّا اعتُبر مُؤشّراً على مستوى غير مسبوق من معاداة الساميّة في فرنسا، وإلى مبالغةٍ مُستهدَفة لتخويف اليهود الفرنسيين من نتائج الانتخابات، واعتبارها كارثية على مستقبلهم هناك.
يربط الإسرائيليون واليهود المُؤيّدون للصهيونية قلقهم بمواقف ميلانشون المُتعدِّدة تجاه الاستيطان الإسرائيلي وممارسات الاحتلال ضدّ الفلسطينيين. وكان "فرنسا الأبيّة" قد حمّل في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 سياسات إسرائيل المسؤولية عن عملية طوفان الأقصى، عندما قال إنّ الهجوم المُسلّح، الذي قادته حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، يأتي في سياق تكثيف سياسة الاحتلال الإسرائيلية في غزّة والضفّة الغربية والقدس الشرقية. علاوة على تغريدات خاصّة بميلانشون نفسه قال فيها إنّ "أعمال العنف كلّها التي أطلق لها العنان ضدّ إسرائيل، وفي غزّة، تثبت أمراً واحداً فقط، وهو أنّ العنف لا ينتج ولا يعيد إلّا نفسَه". هذه المواقف المنطقية المُنسجِمة مع ردّات الفعل الإنساني الطبيعي لم تعجب إسرائيل حينها، لكنّها لم تنشغل بها كثيراً في ظلّ وجود ميلانشون وحزبه في المعارضة. غير أنّ آخر انتخابات وضعت اليسار الراديكالي، الذي يقوده ميلانشون، في المُقدِّمة، ما يعني تعاظم تأثيره في السياسة الفرنسية، واحتمالية غير مُستبعَدة لأن يذهب أبعد من ذلك في المستقبل.
استغل قادة إسرائيليون ومسؤولون صهيونيون فوز اليسار بالانتخابات الفرنسية للدعوة إلى هجرة يهود فرنسا إلى فلسطين
لم تنفصل ردّات الفعل الأولية على نتائج الانتخابات الفرنسية عن طبيعة الشخصية الصهيونية، التي تلعب دائماً على رواية المظلومية، والاضطهاد، واستحضار ذكرى المحرقة النازية في المناسبات كلّها. فاعتبرت صحيفة يسرائيل هيوم، يوم 8 يوليو/ تمّوز الجاري، عقب ظهور النتائج مباشرة، أنّ النتائج تُذكّر بحكومة فيشي الفرنسية، التي تعاونت مع النازية في الحرب العالمية الثانية، وأنّ الحكومة المُقبلة المُتوقَّعة، في ظلّ النتائج المُعلَنة، لن تدافع عن اليهود إذا تعرّضوا للاعتداء، ومن ثمّ فإنّ الطائفة اليهودية هناك، التي يُقدّر عددها بنصف مليون يهودي، أصبحت خائفة الآن أكثر من أيّ وقت مضى، ولا تدري كيف يكون مصيرها في فرنسا. وكتب مراسل صحيفة يسرائيل هيوم، نيسان شتراوكلر، يقول: "إنّ الانتخابات في فرنسا وضعت يهود فرنسا في حالة من القلق وعدم الوضوح؛ فكتلة اليسار التي توحّدت تحت اسم (الجبهة الشعبية الجديدة) أصبحت الكتلة الأكبر في البرلمان الفرنسي، وهي تضمّ حزب فرنسا الأبية الذي تتّهمه الطائفة اليهودية بتشجيع معاداة الساميّة في الدولة". ونقل شتراوكلر عن رئيسة اللجنة اليهودية الأميركية في أوروبا سيمون رودان بنزاكين قولها: "إذا استمرّت قوّة ميلانشون في تصاعد، فإنّ كلّ عائلة يهودية فرنسية ستسأل نفسها إن كانت تريد البقاء في فرنسا". وحسب بنزاكين، فإنّ اللجنة التي ترأستها أجرت استطلاع رأي كشف أنّ 92% من يهود فرنسا يرون أنّ ميلانشون وحزبه عنصر أساسي في تنامي معاداة الساميّة في البلاد، وأنّ حملته واتهاماته ضدّ إسرائيل حول الحرب في غزّة رفعت مستوى العداء للساميّة هناك، معتبرة ميلانشون نسخة مطابقة لرئيس حزب العمال السابق في بريطانيا جيرمي كوربين. ومن الواضح أنّ الضغوط الصهيونية تهدف إلى تشويه شخص ميلانشون عالمياً، مثلما حدث مع كوربين من قبل، وتهييج الرأي العام ضدّه، من أجل تقليص أي احتمال في أن يكون له تأثير في السياسة الفرنسية؛ وفي هذا السياق اعتبر شخصاً شعبوياً، يؤسّس موقفاً انقلابياً ضدّ الغرب وإسرائيل، بل ضدّ اليسار المُعتدل المُنتمي إلى مركز الخريطة السياسية. إضافة إلى أنّ تصريحاته أظهرت أنّ معاداة الساميّة لم تعد خطّاً أحمر على عكس موقف السياسة الغربية. وبالتالي فإنّ دخول قوى يسارية مختلفة في ائتلاف مع حزبه يعني أنّ معاداة الساميّة ليست مرفوضة.
ما يهم هنا هو أن الموقف الصهيوني انقسم إلى خطاب إعلامي، وآخر عملي؛ ففي الجانب الإعلامي جاءت تصريحات بنزاكين السابقة، وكذا ما قاله رئيس مجلس ممثلي الطوائف اليهودية في فرنسا (CRIF) يوناثان أرفي، الذي اعتبر ميلانشون "تهديداً خطيراً على اليهود، بل وعلى العالم الحرّ، ومن الضروري تكوين ائتلاف من دونه، لأنّ ما نراه من تعاظم معاداة الساميّة لدى اليسار المُتشدّد يعني المزيد من الخطر على حياة اليهود، فكيف يمكن أن يُؤيّد حماس، ويهاجم إسرائيل واليهود". إضافة إلى تعليقات مُحلّلين إسرائيليين واصلوا نبرة المبالغة نفسها والحديث العاطفي الخالي من أيّ منطق في أكثر الأحيان، كتعليق أحدهم أنّ ما حدث ضربة قوية لإسرائيل، ويهود فرنسا خصوصاً، وتعليق آخر أن قلبه تحطّم بعد ظهور نتائج الانتخابات الفرنسية، وأن فرنسا احتُلَّت على يد الإسلام من دون طلقة واحدة. في مقابل هذا الخطاب الإعلامي العاطفي المثير للهلع، ثمّة خطاب عملي ينقسم بين توجّهين، أحدهما يتعلّق بالجهود التي تبذلها الطائفة اليهودية الفرنسية للدفع نحو تكتّل أحزاب الوسط معاً، وتشكيل حكومة ائتلافية تستبعد "المُتشدّدين". يضاف إلى ذلك أنّ قادة الطائفة اليهودية بدأوا خطاباً إعلامياً بعضه موجّه إلى الفرنسيين عامّة وأغلبه إلى السياسيين، مفاده توضيح مخاطر أن يكون ميلانشون وحزبه جزءاً من أيّ حكومة قادمة. أما التوجّه الآخر، وهو الأكثر أهمّية، الذي أخذ تركيزاً أكبرَ، فيرتبط بدفع اليهود الفرنسيين إلى الهجرة إلى فلسطين المُحتلّة، وهذا الخطاب تبنّاه سياسيون كبار في إسرائيل، أحدهم رئيس حزب إسرائيل بيتنا، أفيغدور ليبرمان، الذي غرّد في "إكس" بقوله: "على وقع انتصار اليسار الراديكالي في انتخابات فرنسا، أدعو كلّ يهود فرنسا إلى الهجرة إلى إسرائيل، لم يعد هناك وقت". وإلى جانب ليبرمان، فإنّ مسؤولين في مؤسّسات صهيونية عالمية استغلّوا نتائج الانتخابات الفرنسية في سياق الدعوة إلى هجرة يهود فرنسا إلى فلسطين المُحتلّة، ودفع دولة الاحتلال إلى تنفيذ خطّة تسهم في تحقق هذا الهدف.
في هذا السياق، نقل الصحافي في "يديعوت أحرونوت"، يانيف فوهوريلس، الثلاثاء الماضي، أي بعد نتيجة الانتخابات بيوم، في مقاله "سيئة لفرنسا وسيئة لليهود: انتخابات فرنسا صدمت الطائفة اليهودية"، عن الرئيس السابق لوفد الوكالة اليهودية في باريس، ومدير منظمة المهاجرين اليهود الفرنسيين في إسرائيل، أريئيل كندل، صورة مخيفة لأوضاع يهود فرنسا. وطبقاً لكندل، فإنّ 11 يهودياً قتلوا خلال الأعوام الماضية لأسباب معادية للساميّة، كما أنّ 15 ألف يهودي يتعرّضون لاعتداءات جسدية بشكل سنوي، إضافة إلى ما عبّر عنه أكثر من 200 ألف يهودي من شعور بالخوف بسبب الاعتداءات المعادية للساميّة. ويقول كندل إنّ هؤلاء جميعاً مضطرون إلى التعامل مع أحزاب اليسار المُتطرّف التي تنكر ما حدث في 7 أكتوبر (2023)، وتتعاطف مع حركة حماس.
يتصرّف الإسرائيليون وكأنّ الناخبين الفرنسيين حينما توجّهوا إلى صناديق الانتخابات لم يكونوا معنيين بمستقبل بلادهم، بل بعقاب إسرائيل
ولاستكمال البروباغاندا الصهيونية، يتحدّث كندل عن مشاعر مأساوية كشفتها استطلاعات الرأي في أوساط اليهود الفرنسيين؛ فلم يعد 68% منهم يشعرون بالأمان، وبات 38% من أبناء الطائفة اليهودية يُفكّرون في الهجرة، و13% (حوالى 60 ألفاً) يضعون الهجرة إلى إسرائيل في مقدمة اختياراتهم. غير أن الرئيس السابق لفرع الوكالة اليهودية في باريس، في مقال له في صحيفة يسرائيل هيوم، كتب كلاماً صريحاً عن استغلال ما يحدث من أجل تهجير يهود فرنسا إلى إسرائيل، وتخلّى تماماً عن نبرة التلميح السابقة "نحن أمام فرصة لا تعوّض، علينا أن نستوعب المزيد من المهاجرين اليهود الفرنسيين إلى إسرائيل، وأن نحوّل حلم الهجرة حقيقةً، لكن لكي يحدث هذا على حكومة إسرائيل أن تنفّذ خطة طوارئ لتهجير يهود فرنسا واستيعابهم، فإن لم تفعل ذلك فإنّها تخذلهم".
هكذا يتصرّف الإسرائيليون، والصهيونية، وكأنّ الكون يدور حولهم، والبشرية تستهدفهم، وكأنّ الناخبين الفرنسيين حينما توجّهوا إلى صناديق الانتخابات لم يكونوا معنيين بمستقبل بلادهم، بل بعقاب إسرائيل. هذا التعامل يكشف تلك العقلية الصهيونية الانعزالية، التي لا ترى إمكانية أن يصبح اليهودي مواطناً في بلد آخر، وأنّ عليه الهجرة إلى إسرائيل كي يتمتّع بحقوق المواطنة الكاملة، القائمة على سلب حقوق الآخرين. وهي في هذا السياق لا تهتم بتوريطه أمام بلده الذي يعيش فيه، والتشكيك في الانتماء إليه، بل وتَعمّد وضعه في أزمات لا تنتهي، لتقدم له الحلّ الذي يناسبها هي، أي الصهيونية، من دون أن تكون معنية حقيقةً بأمانه، وهو ما فعلته الصهيونية طوال عقود مضت منذ نشأتها.