تمثال الرئيس التعيس

31 يناير 2019
+ الخط -
خرج الوقواق من خرقٍ أحدثته قذيفةٌ في ركبة تمثال السيد الرئيس الذي امتلأ بدنه المعدني بالخروق من حجارة المتظاهرين، فسقطت عليه قطرةٌ بلّلت ريشه، شمَّ فيها رائحة حمضٍ كريهة. نظر إلى الأعلى، السماء صافية ولا تمطر، رفرف إلى قحف التمثال، فلم يجد دموعا في عيني التمثال. وكانت البلدية في قصة "الأمير السعيد" لأوسكار وايلد قد بنت للأمير تمثالا له بعد وفاته، كما في بلاد العالم التي تكرِّم ملوكها بالتماثيل، أما السيّد الرئيس، فكانت تماثيله كلها قد صنعت له على عينه.
قال الوقواق: ظننتك تبكي، يا سيادة الرئيس؟
قال الرئيس: البكاء للنساء. أنا لم أبكِ على ابني عندما مات، البلُّ من شرب المتة فلا تؤاخذني، ما الذي جاء بك إليَّ؟
قال الوقواق: الطيور على أشكالها تقع، يا سيادة الرئيس. لم أجد عشّاً أضع فيه بيضي، دمرتم بالبراميل كل البيوت والأشجار والأعشاش.
قال السيد الرئيس: أريد منك خدمة.
قال: انت تأمر أيها القائد الرمز.
قال الرئيس: "الكرار" بعد أن سلّمت الأمانة، وهي الأمانة الوحيدة التي سلّمتها في حياتي، ولو كنت أقدر ما سلّمتها، تولّى ابني الغرُّ القيادة، حسب وصيتي، وليس حسب دستور الجمهورية، وهو قليل الخبرة.
قاطعه الوقواق: ما عندك زمردة في سيفك، ولا جوهرتان في محجريْك، ولا ذهب على كتفك، يا سيادة الرئيس، فأيَّ خدمة أقدُّمها لك.
قال: جماعتي كلهم لصوص، تمثالي كلّف ما يعادل تمثال ذهب، أريد منك إيصال هذه الرسالة. تعرف أنَّ ثورة تحاكُّ ضد ابني، وهناك امرأة فقيرة، أولادها يتظاهرون مع الإرهابيين، وهي تؤاسي المتظاهرين الجرحى، أريد منك أن تخبر الجهات المختصة "بتضحياتها".
قال الوقواق: غالي والطلب رخيص. دلّه الرئيس على عنوانها، فطار، ثم عاد بعد يومين، وقال: قاموا باللازم على أتمِّ وجه، وأظنها الآن تتعلم الفن التشكيلي في السجن.
ابتسم الرئيس من خفّة دم الطائر. جلس في الخرق، فسقطت عليه قطرة ماءٍ فرفع بصره، ولم يكن الرئيس يبكي، شرب الويسكي يسبّب الحقن مع تقدّم العمر ومرض البروستات. طلب منه الرئيس طلباً ثانياً: هناك كاتبٌ يكتب مقالاتٍ ضد ابني في الصحف العربية خارج البلاد، وينشر منشوراتٍ في "فيسبوك" و"تويتر" محرّضاً على الثورة. أريد منك أن تخبر الجهات المختصة بعنوانه، تعرف أني قلت يوماً: "الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية، وكل حاجات الإنسان محدودة إلا حاجة الثقافة"، ويجب تكريم المشتغلين في شأن الحاجة العليا.
طار الوقواق، ونفذ الأمر وعاد، وأخبره أنَّ الجهات المختصة دعت الكاتب إلى فنجان قهوة، فطلب الرئيس أمنيته الثالثة، وقال له: هناك حي عشوائي وفقير ومارق ومتمرّد، وأهله متحصّنون تحت الأرض، وأريد منك أن تخبر ابني أنّ أباه يوصي باستخدام "العطور الحربية"، عطور الموت المحرّمة دولياً، يجب أن تتطهر العاصمة وضواحيها من رجس هؤلاء الإرهابيين. إذا انتصر هؤلاء لن تبقى لنا قائمة، والدول العظمى ستكون سعيدة أيضا. طار الوقواق ونفَّذ المهمة، ولم يتوقف الرئيس عن إصدار الأوامر، لا يزال يظنُّ نفسه رئيساً، أوامر كثيرة؛ مثل أن يخبر ابنه بضرورة إعادة رؤساء الفروع المتقاعدين، وأن يوصيه بالتعاون مع الروس أكثر من التعاون مع الإيرانيين، وأن يجعل الكذب حرفته وفروسيته، الرئيس الناجح هو الكذّاب والغّدار.. فنفذت الجهات المختصة كل الأوامر، وأعادت الرئيس وسط المدينة، وبدلّت له عينيه المفقوءتين، بعينين مقلوعتين من أعين المتظاهرين، وكبدا جديدة، وطحالا جديدة، وقلبا جديدا لشاب في العشرين. أما دم الرئيس المصاب بالسرطان، فسيبدل كل ساعة بدم جديد، الشعب يفديه بالروح وبالدم.
قال الوقواق: سيادة الرئيس، لقد نفذت لك طلباتٍ كثيرةً، ولي رجاءٌ واحدٌ فقط.
سكت الرئيس الذي كان مقلّا في الكلام، في حياته وفي موته.
قال: أريد الجنسية في بلادك الدافئة.
قال السيد الرئيس: الوطن ليس لمن يحمل جواز سفره أو يولد فيه، الأرض لمن يعمل فيها، والبيتُ لمن يسلبه.
أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر